في البلدان المتخلفة رجل الشرطة يرمز للظلم والخوف والتعنيف. عندما يوقفك تفترض الأسوأ إلى أن يثبت العكس. وإذا دخلت مركز شرطة، تشعر بركبتيك ترتعشان ونفسك يختنق إلى أن تخرج منه سالما.
في البلدان المتقدمة رجل الشرطة رمز أمان واطمئنان لكل الناس. يرونه مجرد موظف حكومي يتلقى راتبه من ضرائبهم ليخدمهم قدر ما استطاع ضمن منظومة صارمة تستحق الاحترام.
فرنسا والولايات المتحدة دولتان متخلفتان في هذا الشأن. رجل الشرطة فيهما مصدر أمان واطمئنان لأصحاب السحنة البيضاء واللكنة النقية. بالنسبة للآخرين، من ملوَّنين ومختلفين ثقافيا ودينيا واجتماعيا، الشرطي خصم ظالم ومشروع قاتل.
يمكن إضافة إسرائيل إلى فرنسا والولايات المتحدة. فرجل الأمن فيها، بالنسبة للفلسطينيين، لا يختلف عن الفرنسي والأمريكي، إنْ لم يكن أسوأ منهما.
لهذا لا تختلف جريمة قتل الشاب نائل بإحدى ضواحي باريس عن الجرائم التي يقترفها رجال الشرطة الأمريكيون بحق مواطنيهم السود. ولا تختلف عنها جرائم رجل الأمن (ليس بالضرورة الشرطي) الإسرائيلي بحق الفلسطينيين. وقوف رَجُلي الشرطة على مقربة من سيارة نائل وحركة أحدهما وهو يُصوّب سلاحه نحو السائق، تشبه كثيرا حركة أي شرطي أمريكي عندما يوقف سائق سيارة أسودا.
في اليوم التالي لجريمة قتل نائل نشر موقع «باسطا» الإخباري الفرنسي المتخصص في التحقيقات أرقاما تكشف ارتفاعا ملحوظا في عدد قتلى الشرطة والقوى الأمنية الأخرى.
حسب الموقع، قتلت الشرطة الفرنسية وقوات الدرك 40 شخصا سنة 2020 و52 شخصا في سنة 2021، و39 خلال 2022.
وللقياس، تشكل هذه الأرقام ضعف تلك المسجلة في العشرية 2010/2020.
وتكشف أرقام «باسطا» التي اعتمدت على أرشيف رسمي وأبحاث معمّقة، أن 70٪ من الضحايا بين 2010 و2020 سقطوا على يد الشرطة، و16٪ على يد الدرك و7٪ على يد قوات خاصة مثل التدخل السريع للدرك.
وتسجل الأرقام استسهال القوى الأمنية استعمال السلاح الناري. فعلى سبيل المثال، سقط 26 قتيلا من مجموع 39 العام الماضي بالرصاص.
كما تشمل قائمة القتلى ضحايا حوادث السير أثناء المطاردات الأمنية التي تنتهي باصطدام تنتج عنه مأساة. من المؤكد أن الأغلبية الساحقة من الضحايا أبناء مهاجرين. وبالمهاجرين أقصد أبناء المغاربيين والأفارقة.
لا يمكن فصل هذا الارتفاع الكبير في القتل عن الجو العام في فرنسا الذي عنوانه استقالة الدولة عن واجباتها لصالح الأجهزة الأمنية، وتآكل الديمقراطية الاجتماعية. هذا الفراغ موجود لكنه تجلى أكثر في عهد الرئيس ماكرون. الباقي تفاصيل سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية.
سياسيا، هناك الزحف الخطير للخطاب اليميني المتطرف الذي يُحرّض على الأجانب وخصوصا المغاربيين والأفارقة دون أن يكلف نفسه عناء التفريق بين الصالحين منهم ومَن يعتبرهم «حثالة».
هذا الزحف دفع اليمين التقليدي إلى منافسة المتطرف في خطابه ومواقفه لدواع انتخابية. هي مسألة وقت فقط وتذوب الفروق البسيطة بين ماكرون وعتاة اليمينيين المتطرفين.
تفشي خطاب اليمين ترتّب عنه تطبيع مع لغة العنصرية والكراهية. قبل ثلاثين سنة كان من الصعب أن يصف أحد جون ماري لوبن باليميني المتطرف. اليوم، ربما تشعر ابنته ووريثته السياسية، مارين، بغبن إذا ما نسيَ أحد وصفها باليمينية المتشددة! ولم تكن أي محطة إذاعية أو تلفزيونية تجرؤ على بث نقاش طويل في توقيت الذروة موضوعه الهجرة، فيوغل الضيوف في الخطاب العنصري المقيت.
ليس غريبا وسط هذه الأجواء المسمومة أن يشعر رجال الشرطة والقوى الأمنية الأخرى بنسبة من الحرية ونوع من الحماية المعنوية عند تعاطيهم مع المهاجرين في الشارع أو في المخافر الأمنية. وقد تشجَّع عناصر الشرطة أيضا بالمادة 435/1 من قانون الأمن الداخلي المعدّل في 2017 بشكل يُسهّل عليهم استعمال سلاحهم الناري.
في أيار (مايو) 2020 نشر موقع ميديابارت الفرنسي الشهير بجديته تحقيقا معمقا عن تغلغل الفكر اليميني في أوساط الشرطة الفرنسية، فكشف حقائق مخيفة: شرطيون وضباط يتباهون بكراهيتهم للأجانب. آخرون يعبثون بسلاحهم في محاكاة للتصويب نحو شاب ملوّن. كتابات على الجدران ومراسلات موغلة في الكراهية بين مجموعات أثناء التدريبات أو في مقرات الإقامة، وغير ذلك.
يمكن أن أضيف إلى كل هذا اختفاء «الوسطاء». أعني قادة الرأي في مجتمعات المهاجرين ومنتسبي الجمعيات الأهلية والخيرية التي تلعب في حالات التوتر دور الإطفائي. خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي اشتهرت منظمات عدّة نشطة وفاعلة أبرزها «أس. أو. أس راسيزم» وهي جماعة مناهضة للعنصرية تدعم المهاجرين وتناضل من أجل حقوقهم. اليوم تبدو هذه الجماعة وقد توارت أو ضاع صوتها وسط صخب التطرف السياسي والعقائدي من جهة، وبروز أجيال جديدة من أبناء المهاجرين ترفض كل ما يمت بصلة للمؤسسات والعمل المنظم حتى لو كانت من ظهرانيهم وهدفها مساعدتهم.
كما تراجع تأثير مَن بقي من ناشطين وجمعيات، وتآكلت الثقة في مسجد باريس ولا وجود لصوت الكنيسة في بلد شديد الحساسية من الأديان ومظاهرها بداعي العلمانية.
هكذا اندثرت حلقات الوصل بين المهاجرين ومؤسسات الدولة، وخصوصا الشرطة، فبقي العنف وميزان القوة لغة التخاطب الوحيدة، وتغوّل وزير الداخلية ليصبح أقوى من رئيسة الحكومة.
اقتصاديا واجتماعيا تعاني مجتمعات المغاربيين والأفارقة من هشاشة كبيرة عناوينها البطالة ورداءة السكن وسوء التأهيل العلمي والوظيفي. من الطبيعي أن يسفر عن هذه الهشاشة كفر بمؤسسات الدولة يعبّر عنه شباب الضواحي بإصرارهم على التمرد والعصيان. وأحد أوجه التمرد مناكفة رجال الشرطة ورفض الاستجابة لأوامرهم، كما فعل نائل.
قتلُ نائل ليس عملا فرديا بل جريمة دولة وثمرة ثقافة متجذّرة. هو ثمرة عنف رسمي مُهيكل طال بقوة الفرنسيين الآخرين (أصحاب «السترات الصفراء» والمتظاهرون ضد قانون المعاشات).
فرنسا في حاجة إلى إصلاح عميق. المهمة لا تتعلق برئيس دون غيره أو حكومة بعينها، وليست محصورة في إطار زمني محدد. إنها مهمة الدولة، ركنها الأول إصلاح جهاز الشرطة وانتشاله من التأثيرات العقائدية والسياسية، ثم تجريده من أدوات الغلو في العنف. وركنها الثاني استرجاع ثقة مجتمعات الفرنسيين المنحدرين من الهجرة. الركنان يكمل أحدهما الآخر. أما إذا ما واصلت الدولة الفرنسية ترك القضية بين أجهزة أمنية مشبعة بثقافة الكراهية ومجتمعات مهاجرين ينخرها الحقد والرغبة في التمرد، فهي حتما تتجه نحو الاصطدام بالحائط.