واحدةٌ من أغرب جوانب الثقافة الفكرية الفرنسية: تزايد خوف قوى اليسار السياسي من الإسلام، بدعوى محاربة “قوى الظلام”، فيما كان اليسار نفسه يتجاهل، سنوات طوال، مصطلح الإسلاموفوبيا، بحجة أن الملالي في إيران هم مَن وضعوه، وذلك قبل الاعتراف بأن هذا ادّعاء كاذب. ولكن، ما زال اليسار مصرّاً على أن المصطلح وُضع، أساساً، لحماية الإسلام من أي انتقاد. وهذا الأمر هو سبب أهمية التقرير السنوي للجنة الوطنية الاستشارية لحقوق الإنسان (سي أن سي دي أتش)، الذي نشرته اللجنة، في إبريل/ نيسان الجاري، بالتعاون مع الحكومة، وتتألف من متخصصين وممثلين للمنظمات غير الحكومية ومسؤولين منتخبين وممثلي النقابات، إلخ. وقدمت اللجنة تقريرها، في اليوم نفسه الذي تولّى فيه رئيس الوزراء الفرنسي الجديد، مانويل فالس، مهامه الرسمية. وانتقد التقرير السياسيين، سواء المنتمين إلى قوى اليسار أو اليمين، الذين شاركوا في الهجوم المنظّم ضد الغجر المستضعفين، ومنهم كريستيان استروسي وإريك سيوتا وناتالي كوسيوسكو ـ مورزا. وكان فالس قد صرح، يوم 24 سبتمبر/ أيلول 2013، بأن أسلوب حياة الغجر يختلف تماماً عن أسلوب حياة الفرنسيين، وهو أمر لا بد من مواجهته. وفي تصريحه، الذي أدلى به حين كان وزيراً للداخلية، يكون فالس قد أسهم، مثل اليمين الديني المتشدد، في زيادة التعصب والكراهية ضد الإسلام في فرنسا.
الجديد في التقرير، هو ما أشرت إليه سابقاً، وهو أنه، وللمرة الأولى، وبعد مناقشاتٍ داخلية عميقة ومستفيضة، قرّرت “سي أن سي دي أتش” اعتماد مصطلح الإسلاموفوبيا، فتم اعتماده وضمّه إلى قاموسي روبرت بيتيت ولاروس. وكانت قد اعتمدته في عام 1998 لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، وكذلك مركز الرصد الأوروبي المعني بدراسة العنصرية وكراهية الأجانب في فيينا. لكن، ما زال هناك تردد غريب بخصوص استخدامه من جانب الأحزاب السياسية والمؤسسات الفرنسية. ويوضح التقرير أن المصطلح غير متكامل، لأنه يمكن انتقاده، من حيث (هل يمكننا حقاً أن نتحدث عن الخوف المَرَضي؟ هل هناك خطر من أن يستخدم المصطلح الذين يرفضون نقد الإسلام كدين؟). أيضاً، يمكن أن تستهدف الانتقادات مصطلح معاداة السامية، بعدما كاد يختفي، على الرغم من أنه أمر واقعي.
ومن ناحية أخرى، فإن المصطلحات الأخرى المقترحة (العنصرية أو معاداة المسلمين)، مشكوك فيها بشكل أكبر. فيلاحظ الباحثون أنه كانت لمصطلح العنصرية مراحل تطور مختلفة، إذ تغيّر مفهومه تغييراً عميقاً، خصوصاً في مرحلة ما بعد الاستعمار، فتحوّل من التركيز على العنصرية البيولوجية إلى العنصرية الثقافية. أما “الإسلاموفوبيا”، فاستطاع أن يغيّر من مظهره، فاستغلته المجموعات السياسية، لتوحيد جمهور الناخبين الأوسع نطاقاً، ليبثّها كرهه للدين الإسلامي والمسلمين، بل إن راديكاليين ذهبوا إلى ما هو أبعد من الكلام. وطبقاً لوجهة النظر هذه، فإن الإحصائيات التي يرصدها التقرير بشأن أعمال العنف العنصرية، حيث تشير الأرقام، بصفة عامة، إلى انخفاض حاد (من 1542 إلى 1274 أي ما يقرب من انخفاض قدره 20 نقطة)، بالإضافة إلى انخفاضٍ في الأعمال المعادية للسامية (31% أقل)، بينما تزيد الأعمال المعادية للمسلمين، للسنة الثالثة على التوالي، فقد زادت بنسبة 11.3% عام 2013، بعد زيادتها بنسبة 30% عام 2011، و28% عام 2012.
في ظل هذه الظروف، يقدم مصطلح الإسلاموفوبيا مزايا عديدة من منظور مكافحة التمييز، حيث يحوي المصطلح إمكانات كامنة قوية وواضحة وقاطعة، بحيث تكون له قوة على استعراض مثل هذه المشكلة الخطيرة.
إذا تمكن المصطلح، تدريجياً، من الاستثمار بشكل كبير في الشكل اللغوي الحالي والمؤسسي، فإنه سيعكس مدى خطورة نمو الشعور بالعداء تجاه المسلمين في فرنسا (إلخ). وترى “سي أن سي دي أتش” أن من المناسب تحديد أبعاد المشكلة ومحاربتها، من دون تجاهل التجاوزات الدلالية، أو إخفاء مخاطر الاستغلال، ما يعكس أن الإسلاموفوبيا ظاهرة مخيفة وخطرة، وتهدد العيش السلمي، ما يستدعي الانتباه وتضافر الجهود لمحاصرة المشكلة وحلها. ولكن التقرير أشار، أيضاً، إلى واقع آخر، هو أن هذا الخوف من الإسلام ورفض الأجانب، على نطاق أوسع، لم يعد يقتصر على قوى اليمين السياسي، بل امتدّ إلى قوى اليسار، بل إنه وصل إلى اليسار المتشدّد، كما أورد الصحافي فنسنت أليز، في مقالته في صحيفة “لوموند” في 1 أبريل/ نيسان الجاري:
لا تزال البطالة والأزمة الاقتصادية، إلى حدّ كبير، أولى اهتمامات الفرنسيين، حيث إن أعداد الذين يعتقدون أن إدماج الأجانب أمر سيئ، إلى ازدياد، حيث تشير استطلاعات الرأي إلى أن 63% من الجمهور يعتقدون ذلك، بزيادة سبع نقاط مئوية، مقارنة بعام 2012، ويمثل 68% من المستجوبين سكاناً متحدّرين من أصول أجنبية.
عموماً، انخفض معدل التسامح عند الفرنسيين بنسبة 12 نقطة، منذ عام 2009، وفقاً لمؤشرات أبحاث فريق من باحثي العلوم السياسية، بالاشتراك مع “سي أن سي دي أتش”. ويؤثر هذا الانخفاض، الآن، على جميع الأقليات، وتعبّر عنه مختلف الحساسيات السياسية، وقد أصبح جلياً أن التعصب استشرى، سواء بين قوى اليمين أو اليسار السياسي.
ويذكر التقرير أن “الإسلاموفوبيا” تزايدت خلال عدة سنوات، نتيجة ضغط اليسار، وبالتحديد، الناخبين اليساريين الذين ينتسبون إلى التحالف بين الحزب الشيوعي وجبهة جان ـ لوك ميلانتشون، أو حتى حزب الخضر الذي يزعم دعمه للمهاجرين، ويدافع عن حقهم في التصويت. واتضح أن أعضاءه يعانون من “الإسلاموفوبيا”، نتيجة الخوف على العلمانية التي يُساء فهمها. ولا علاقة للعلمانية، هنا، بأن مؤسسي الحزب، أريستيد بريان وجان جوريس، كانا علمانيين. وكما ورد في تقرير “سي أن سي دي أتش”، أصبح مصطلح العلمانية فضفاضاً، يتضمن حقائق مختلفة، ولكن، أساساً، هو معنيٌّ بالعداء للإسلام.
يسمح هذا الخوف من الإسلام، باسم الدفاع عن العلمانية، لجزءٍ من قوى اليسار، إنْ تأكد أنها ليست عنصرية بالمعنى التقليدي للمصطلح، بل تكافح، ببساطة، ضد التعصب، متناسية أن العنصرية الثقافية ظهرت في أوروبا الغربية، منذ هزيمة النازية، شكلاً من أشكال رفض الآخر، وهو الأمر الذي يرفض اليسار الاعتراف به. ما يعكس، جلياً، عدم قدرة اليسار على أن يجعل شعاراته تتفق مع ممارساته على أرض الواقع.
عندما يخاف اليسار في فرنسا من الإسلام/ ألان غريش
فرنسية محجبة وتحمل العلم الفرنسي في حجابها