“رجال في الشمس”، رواية غسان كنفاني حول الرحلة الرهيبة لبعض الفلسطينيين الذين ماتوا اختناقا في هربهم نحو بلد عربي جراء النكبة التي تعرضوا لها، تتكرر هذه المرة بعد مقتل 30 لاجئا يعتقد أنهم من جنسية سورية اختناقا وعثر عليهم يوم الأربعاء من الأسبوع الجاري في بلدة باندروف النمساوية المتاخمة شرقا للحدود الهنغارية.
وتحكي رواية غسان كنفاني رحلة ثلاثة فلسطينيين يحلمون بتجاوز الحدود العراقية نحو الكويت، ويتعاقدون مع المهرب أبو خيرزان الذي سيعمل على تهريبهم في خزان ماء لشاحنة قديمة متهاكلة، ومن سوء حظهم لقوا حتفهم اختناقا بسبب تماطل موظف الحدود في الجانب الكويتي.
ويحدث أن تتجاوز أحداث الواقع خيال المبدعين في الكثير من المناسبات، وهو ما يقع في الشاحنة النمساوية ورواية رجال في الشمس. فالرواية التي تعتبر من قمم الابداع الفلسطيني والعربي تتحدث رحلة ثلاثة فلسطينيين ، لكن في حادث الشاحنة النمساوية الرقم مضاعف عشر مرات على الأقل، ثلاثين من اللاجئين المهاجرين ماتوا اختناقا، وفق وكالة الأنباء النمساوية. ولا تستبعد مصادر أخرى مثل جريدة كرون ارتفاع العدد الى ضحية50. وتتحدث الجريدة عن كيف تم ترك الشاحنة منذ أيام بالقرب من محطة للبنزين حتى العثور عليها يومه الأربعاء من الأسبوع الجاري.
ومن سخرية الأقدار أن الشاحنة التي جرى فيها تهريب الضحايا متخصصة في نقل اللحوم المشوية، وبدل نقل لحوم الأبقار والخرفان والدجاج، فقد نقلت هذه المرة اللحوم البشرية التي اكتوت بحرارة الشمس والاختناق. وتقدم وسائل الاعلام النمساوية صورة الشاحنة وهي متوقفة وتحمل الصورة الإشهارية للحوم وتقارنها بالضحايا، صورة تعكس قساوة واقع اللاجئين السوريين.
وزيرة الداخلية النمساوي جوهان لتنير وصفت العثور على الشاحنة المحملة بالضحايا “باليوم الأسود” وكيف يتم الاستهانة بأرواح بشرية بريئة من طرف المهربين العاملين في الهجرة السرية.
وتجري الشرطة تحقيقا حول دخول الشاحنة من هنغاريا والمسؤولين عن عملية التهريب التي انتهت بمأساة حقيقية. لكن كل هذه التطورات تبقى ثانوية أمام الواقع المر الذي يمر منه اللاجئون السوريون هربا من الدمار والحرب والقتل، حيث يلقون حتفهم في الحدود البرية مع الدول العربية التي ترفض استقبالهم وبحرا في مياه البحر المتوسط، محاصرين من النظام وداعش وتركيا وما يصطلح عليه “الأشقاء العرب” وضعف التضامن الدولي.
وإذا كان غسان كنفاني قد جسد مأساة الشعب الفلسطيني في أبطال خياليين وهم الضحايا الذين يموتون اختناقا الطالب مروان والمناضل أسعد والشيخ أبو قيس، فواقع الشاحنة النمساوية ليس فقط نماذج من المناضلين وكلهم ذكور وراشدين بل حتى النساء والأطفال. وبهذا يكون الواقع أكثر مرارة من خيال المبدعين.