من تغريدة على تويتر، إلى تحقيق ثم رحلة خمسة أيام بسجن عكاشة والحكاية لازالت مفتوحة على كل الاحتمالات.. هي رحلة الصحافي عمر الراضي. ومن قلب مهنة الصحافة يحدثنا زميلنا عن حساسية الحديث عن “السلطويةبالمغرب” من الجارة الجزائر، عن القضايا الحارقة على طاولة “ملحمة العدميين” وحل الجمعية المضيفة. في هذاالحوار ينتقد الراضي بشدة استحواذ من يجمعون السلطة بالمال على قطاع الصحافة وانتشار التشهير.. ولايعتبر أن يكون صحافيا مناضلا “سبة“. يتحدث عن الزملاء الصحافيين المغيبين خلف أسوار السجن أو ممن طالبوا باللجوء، ويقول إنه لا يفكر في مغادرة المغرب، بل يأمل أن يعود المغادرون.
تلقيت استدعاء حول التغريدة التي اعتقلت بسببها، في أبريل الماضي، ثم بعد حوالي تسعة أشهر جرىاستدعاؤك للسبب عينه؟ ما الذي استجد في نظرك؟
تغريدتي على موقع تويتر كانت مرتبطة بأحكام الاستئناف الصادرة في حق معتقلي حراك الريف بالبيضاء، وكانتتعبيرا عن سخط وغضب عن هذه الأحكام القاسية جدا تجاه مناضلين طالبوا بحقوق أساسية جدا. وتزامنت هذهالتغريدة مع قرار حل جمعية “جذور” بسبب شريط “ملحمة العدميين“، الذي تم تصويره في مقرها، وكنت ممنشاركوا فيه، والذي تضمن نقاشا صريحا حول السلطة في المغرب وحول الفساد والقضاء. وفي الشكاية التي أدتإلى حل جمعية “جذور“، كنت الوحيد الذي ذُكر بالاسم، مع تضمين ما قلته لتعليل طلب حل جمعية “جذور“، وكاناسمي مكتوبا بخط بارز جدا وكأنها رسالة ضمنية إلى أنني السبب في حل الجمعية. فيما بعد جرى استدعائي حولالتغريدة وحضرت الاستنطاق يوم 18 أبريل 2019.
حول ماذا كان الاستنطاق؟
انصب بكامله حول التغريدة فقط. طلبوا مني شرح الكلمات التي تضمنتها، ومجمل ما قلته هو أن التغريدة تعبير عنسخط وغضب تجاه القضاء في المغرب، وكيف تعامل القضاء والأمن مع معتقلي الحراكات الاجتماعية، وحراكالريف، وانتهى الاستنطاق الذي دام حوالي خمس ساعات، ولم يعاودوا الاتصال بي، حتى نهاية الأسبوع قبلاعتقالي، وكنت في الجزائر تلبية لدعوة زملاء ينظمون كل سنتين جائزة الصحافة، وعلى هامش تسليم الجائزة عقدتندوة شاركت فيها إلى جانب صحافي تونسي وآخر جزائري، حول واقع صحافة الاستقصاء في البلدان الثلاثة،إضافة إلى أنه جرى استدعائي لحوار على إذاعة “Radio M” على الأنترنيت، حيث تحدثت عن عملي وعنالاقتصاد وموازين القوى بالمغرب. يومان أو ثلاثة أيام بعد ذلك، تلقيت استدعاء من الفرقة الوطنية للشرطة القضائية،مما يجعلني أظن أنه كان مرتبطا بشكل مباشر بتصريحي الصحافي بالجزائر، وما جعلني أتأكد من هذا، هوالسرعة التي جرى بها التعامل معي يومها؛ من مقر الفرقة الوطنية إلى المحكمة، وإلى سجن عكاشة.
هل لديك اعتقاد أن مشاركتك في نقاش “ملحمة العدميين” من أسباب اعتقالك؟ ولماذا اختير لها عنوان: “العدميون“؟
بالحديث عن السياق العام، أظن أن السلطة، ربما، كانت غاضبة على ما قلته في ذلك الشريط، لكنني لم أخضع لأيتحقيق له علاقة بالجمعية أو الشريط. لكن كان الأمر واضحا من خلال الشكاية التي ركزت على اسمي، بالرغم منأنني مجرد ضيف ضمن ثمانية ضيوف شاركوا في البرنامج. ليست لي علاقة باسم “العدميين“، أنا كنت ضيفافقط، والمنظمون هم من اختاروا اسم كل حلقة، وأظن أن الاسم يحيل على الوصف الذي تطلقه السلطة علىمنتقديها. لقد كان حل جمعية “جذور” مؤشرا من المؤشرات على انسداد أكبر لفضاء الحرية، وإشارة على أن أيامناستسوّد أكثر في المستقبل وهذا ما أكدته الأيام الموالية. ففي السنة عينها تزايدت وتيرة الاعتقال بسبب ممارسة حريةالتعبير على الشبكات الاجتماعية. حل جمعية “جذور” هو لحظة أساسية في تاريخ الرجوع بقوة إلى قمع الحريات.
ربطت بين اعتقالك وتصريحاتك في الجزائر. في اعتقادك، هل التصريحات في حد ذاتها، أم لأنها قيلت فيالجزائر؟
أنا كصحافي متعاطف مع الحراك الجزائري ومؤمن بأن شعبي الجزائر والمغرب هما شعب واحد، لا أرى أي إشكالفي أن يتحدث الجزائريون من المغرب والمغاربة من الجزائر، بل بالعكس أنا أثمن هذا الأمر وأشجع عليه، ولكن ربماللسلطة وجهة نظر أخرى..
إذا عدنا إلى سياق تدوينتك حول أحكام الريف، فقد كانت حملة غضب واسعة على وسائل التواصل الاجتماعي، وعبرالعديدون بطريقة أو بأخرى وبكلمات مختلفة عن استيائهم، لماذا عمر الراضي بالضبط؟
موجة الغضب التي تلت أحكام الريف، تمخضت عنها اعتقالات أخرى، وأيضا كانت هناك أشكال عنف غير ظاهرةفعدد من المتعاطفين جرى التضييق عليهم في عملهم أو تسريحهم منه، وهناك جمعيات تم منع أنشطتها. ومرة أخرى،لا أظن أن تلك التغريدة هي سبب اعتقالي الحقيقي.
تعرف وضعية الصحافة والصحافيين في المغرب تراجعا غير مسبوق، تتحدث عنه المنظمات الوطنية والدولية. كيفتنظر إلى الأمر؟
القطاع الإعلامي في المغرب يعاني من تدخل الدولة المباشر فيه، بأجهزتها الأمنية والاستخباراتية، وأيضا، الرأسمالالكبير. وهذا التدخل أصبح الظاهرة الغالبة. إضافة إلى هجرة القراء من الصحافة الورقية نحو الأنترنيت، وهذهالظاهرة تطورت كثيرا، منذ 2010 إلى الآن، صار لدينا ما يناهز 1600 موقع إعلامي لا ينضبط لأخلاقيات المهنة. وهذا يحدث على مرأى ومسمع السلطة التي تتركه لأنه من مصلحتها تعويم الإعلام وإفقاد ثقة المواطنين فيه، وكانالخاسر الأكبر هم الصحافيون الجادون والمواقع الإعلامية الجادة. وحينما تم اعتماد مدونة الصحافة التي قيل إنهاستطهر القطاع من الشوائب، ها نحن، بعد بضع سنوات من تبنيها، نرى كيف أن الطفيليات الصحافية هيالمؤسسات الأكثر انتعاشا. والمفارقة هي أن هناك مواقعَ جادة تذهب ضحية ما سمي بالملاءمة، إضافة إلى أنه منالغريب جدا أن يسند للنيابة العامة، وهي جهاز ردعي، التكلف بمواكبة تطبيق المدونة، واليوم نرى كيف يتم حجبالجادة أكثر من تلك التي تتحايل على القانون.
الصحافة وظيفتها هي مساءلة من يملك السلطة، وماذا يفعل بهذه السلطة؟ وفي سياقات سلطوية مثل المغرب،فالصحافي يجد نفسه يدخل مهنة يعلم أن فيها مخاطر، لأن عمله قد يكون مزعجا.. وهناك صحافيون أدوا ويؤدونثمن ذلك: المهداوي، بوعشرين… لكنني محكوم بالتفاؤل لأنه سيأتي جيل جديد يقطع مع هذه الممارسات ويخلقفضاءات حرة للتعبير الصحافي وللتحقيقات الصحافية.
أنت عضو في “لجنة الحقيقة والعدالة في قضية الصحافي توفيق بوعشرين“، كيف تنظر إلى الحكم الصادر في حقهوإلى قضيته عموما؟
حكم قاس جدا، جاء بعد محاكمة غير عادلة، شابتها خروقات كثيرة أكدها فريق العمل الأممي الخاص بالاعتقالالتعسفي. وباعتباري عضوا في “لجنة الحقيقة والعدالة في قضية الصحافي توفيق بوعشرين“، فأنا، إلى جانبفاعلين آخرين حقوقيين وسياسيين باللجنة، نطالب بالعدالة والحقيقة في قضية توفيق بوعشرين. ثم إن قضيةبوعشرين هي قضية سياسية وما تطالب به اللجنة هو أن يحظى بمحاكمة عادلة. ولذلك، فلا بد من إعادة المحاكمةبشكل عادل مع وجود مراقبين دوليين ووطنيين لحقوق الإنسان. إضافة إلى هذا، فأنا أضم صوتي إلى باقي أعضاءاللجنة وإلى مجموعة العمل الأممية بأنه ليست هناك أي دواع لمتابعة الصحافي بوعشرين في حالة اعتقال. كما يجبأن أنبه، أيضا، إلى ما واكب محاكمة الصحافي توفيق بوعشرين من حملات تشهير ضد صحافيات وغيرهن ممن قلنإن بوعشرين لم يعتد عليهن وإنهن يرفضن متابعته، كما هاجمت حملات التشهير أعضاء في لجنة الحقيقة والعدالة،لازالت مستمرة ولم يسلم منها حتى العديد من الزملاء الصحافيين والصحافيات. وهذه وصمة عار على من حركها.
يلام بعض الصحافيين، وأنت منهم، على أن يكون للصحافي انتماء حقوقي أو سياسي. كيف ترد؟
قضية الصحافي المحايد هي أسطورة روجها كثيرا الإعلام النيوليبرالي في العشرية الأخيرة، وهذه الملاحظة قيلتلي كثيرا. ومن يتهمني بأني إيديولوجي في عملي أو موجه من جهة معينة، فهو أيضا يتحدث من منطلق إيديولوجيووجهة معينة. يقولون لي: “لماذا تتحدث كثيرا عن الجمعية المغربية لحقوق الإنسان“، لكن هناك من يكتب يوميا عنجمعية للا سلمى لمكافحة السرطان، وهذا أيضا نضال، وهناك من يناضل من أجل الباطرونا المغربية، وهذا واضحفي الصحافة الاقتصادية، وهناك صحافة الأجهزة، كذلك… وهذه كلها أشكال نضالية. لكن الحقيقة هي أن هناك منينزعج من أن يكون للصحافي حس نقدي تجاه السلطة. وعندما تكون أغلب المقاولات الصحافية وكثير منالصحافيين مع الوضع القائم يتم اتهام الأقلية التي تنتقد، والتي تدافع عن ضحايا الظلم والتي تريد مغربا آخر.. بأنها مناضلة أكثر منها محايدة، لذلك، فأنا لا يزعجني أن يُقال عني صحافي مناضل، ولا أعتبرها سبة.
مع اعتقالك اندلعت موجة تضامن واسعة وطنيا، وفي الصحافة الدولية. هل كنت تنتظر ذلك؟
حينما كنت في السجن وصلتني أصداء عن هذا التضامن، ولم أتخيل أن يكون بهذه القوة، لقد فاجأني أنه لم يكنتضامنا كميا فقط، بل كان نوعيا كذلك. فهناك عدد واسع من فئات المجتمع المغربي التي لم يسبق أن اهتمتبالسياسية، والتي كانت بعيدة عن نقاش الحريات، اهتمت بقضيتي. لقد بلغ السيل الزبى، فبعد قضية هاجرالريسوني التي كانت قضية سريالية جدا، وقع اعتقالي من أجل تغريدة وهذا زاد من سريالية تعامل السلطة معالصحافيين، وأظن أن الناس قالوا: “اللهم إن هذا منكر، فين غادين بهاد البلاد؟“، وهذا يعكس أننا في مجتمعدينامي، حي ويتحرك، ويمكن أن يفرز نخبا جديدة.
مؤخرا، لاحظنا لجوء عدد من الصحافيين المغاربة نحو الخارج. هل تفكر في مغادرة المغرب؟
لا، أنا لا أفكر حاليا في مغادرة المغرب. أولا، لأنه لدي محاكمة يجب أن أنهيها، وثانيا، أتأسف لمغادرة عدد كبير منأصدقائي وزملائي. لقد كان من المفترض أن نكون جميعا هنا من أجل الوصول إلى مغرب الحرية والكرامة التييبحث عنها هؤلاء في بلدان أخرى.