تقترن الدراسات الأنثروبولوجية في العالم العربي باسم المفكر المغربي الدكتور عبد الله الحمودي، يعد رائدا في هذا التخصص المعرفي، وتحولت كتبه مثل “الشيخ والمريد” و”حكاية حج، موسم في مكة” وكتابه الأخير “المسافة والتحليل، في صياغة أنثروبولوجيا عربية” الى مراجع لا غنى عنها، وهي الكتب التي ترجمت إلى لغات متعددة. بعد عشرين عاما من التدريس والبحث في معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة بالرباط، انتقل الى الولايات المتحدة أواخر الثمانينات وتقلد منصب أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة بربنستون الأمريكية و مارس مهمة مدير الدراسات في هذا القسم من الجامعة لسنوات طويلة، وترأس “معهد الدراسات عبر الإقليمية للشرق الأوسط المعاصر وشمال إفريقيا وآسيا الوسطى” التابع لجامعة برينستون. وساعدته معرفته العميقة بالثقافة الغربية الى التعامل بنقد بناء، لا يميل الى الترحاب ولا إلى الرفض، مع الدراسات الغربية حول العالم العربي وأساسا في مجال الأنثروبولوجيا. ويعمل على مشروع أنثروبولوجيا عربية مستقلة عن الدراسات الغربية من أجل ظهور جيل يسميه “الأنثروبولوجي المنتمي”. في الحوار التالي مع جريدة القدس العربي، يتحدث عن هذا المشروع وقضايا أكاديمية أخرى.
دعوتَ دائما إلى ضرورة تأسيس أنثروبولوجيا عربية، ويؤكد باحثون أنكم وضعتهم أسس مدرسة عربية أنثروبولوجية من خلال إصدارات متعددة مثل “الشيخ والمريد” إلى كتابك الأخير “المسافة والتحليل في صياغة أنثروبولوجيا عربية” علاوة على الإشراف على عدد من البحوث الأكاديمية. ولعل من مظاهر التميز للمدرسة الأنثروبولوجية العربية هو ما تبرزه في كتابك الأخير بضرورة الإنتاج باللغة العربية.
جواب: أدعو إلى أنثروبولوجيا عربية ومعناه في الأساس أن تكون أنثروبولوجيا لغتها العربية وليس أنثروبولوجيا عربية بمعناها القومي الضيق، وهذا ما أبتعد عنه دائما. واللغة في حدث ذاتها، تحمل أكثر من حمولة منها الانتماء. ما أقول هو أنني أطمح الى تأسيس مدرسة ليس فقط في جانبها الفكري بل بجوانبها المؤسساتية وذات إمكانيات لإنجاز دراسات مسترسلة، وهذا مشروع ثقافي بدأ يجد ترحيبا من طرف الكثير من الباحثين. إذ هناك الكثير من الطلبة والطالبات من جامعات عربية مثل المغرب يتواصلون معي بعد أن فهموا المشروع وأدركوا أهميته. غير أنه مع الأسف، لا يمكن تنفيذ هذا المشروع مثلا في المغرب أو في بعض الجامعات العربية الأخرى بسبب غياب استقلالية حقيقية في الجامعة، عندما يتم اعتماد تعيين عميد الكلية ورئيس جامعة من طرف سلطات عليا، وقتها تغيب الاستقلالية في البحث العلمي.
في إطار الحديث عن الأنثروبولوجيا العربية وخاصة المغاربية وبالتحديد المغربية تدعو دائما إلى ضرورة نهاية الوصاية الغربية على البحث الأنثروبولوجي فهل نحن أمام القطيعة مع المدرسة الغربية ، وهل التأسيس يتطلب بالضرورة القطيعة مع الإنتاج الفكري الغربي في مجال الأنثربولوجيا؟
ما تقوله فيه حقائق، ولكن إذا قمنا بتركيبه تركيبا نظريا فهو يتغير ويختلف. والحقيقة هي أنه توجد أنثروبولوجيا التي أسميها أنا شخصيا أورو-أمريكية ولا أسميها غربية، لأنني لا أحب ثنائية الغرب والشرق. فأنا أسعى إلى مشروع يؤسس لخطاب أنثروبولوجي باللغة العربية نابع من التراث المعرفي لمنطقتي المشرق والمغرب مستقل عن خطابات أنثروبولوجية أخرى ومنها عن الخطاب الأورو-أمريكي. والاستقلالية هنا لا تعني بالضرورة القطيعة، ولا تعني التميز بالخصائص بل هو مشروع مستنبط من أسئلة نابعة من المجتمع المغربي والمجتمعات العربية، مرتبطة بالهموم التي تطفو على السطح، ويمكن أن يستوعبها الأنثروبولوجي المحلي وهو ما أسميه “الأنثروبولوجي المنتمي”، في هذه الحالة مثل حالتي كمغربي، ولكن الانتماء ولغة المجتمع لا يعنيان أنهما سيجعلان هذا الباحث (الأنتروبولوجي المنتمي) يطلع على أشياء جوهرية لا يعرفها الباحث الآخر (الأجنبي في هذه الحالة). عموما، كل هذا لا يكفي لكي يؤسس معرفة كما أتصورها، بل الأمر يتطلب مجهودا إبستيمولوجيا ومنهجية جديدة تقوم على الاجتهاد.
كمثال على هذا الاجتهاد، لا ننسى أن بداية الأنثروبولوجيا عندنا كانت مرتبطة بالكولونيالية، ونحن نقوم بإعادة صياغة النصوص التي ورثناها بما في ذلك المفاهيم عبر ما نسميه réappropriation. وأعطي مثالا من كتابي “المسافة والتحليل”، أقول أن الباحثين عندنا يعودون إلى ابن خلدون، وبالنسبة لي كيف أريد العودة إلى ابن خلدون؟ من أجل إعادة النقاش حول المفاهيم واختراع مفاهيم ليست خاصة ولكنها جديدة، لا تستقي من مفاهيم أوروبا والأنثروبولوجيات الأخرى. في كتابي، يوجد فصل فيه مثال في هذا الشأن، وهو موضوع القبيلة. إذا عدنا للقبيلة كموضوع أنثرولولوجي، فقد خضع للتفكيك من طرف الأمريكيين خاصة، ثم الفرنسيين، هؤلاء الذين كانوا ينتقدون النظرية الكولونيالية، ويضاف إلى ذلك تقويض الاستشراق من إدوارد سعيد ونقد الكولونيالية من طرف طلال الأسد، وعندما أعود إلى ابن خلدون فلكي أرى ما كتبه عن القبيلة، أجده أنه لم يكتب كثيرا عن القبيلة بل يركز أساسا على العصبية، ويعتبر العصبية محرك بناء القبيلة. ابن خلدون لم يكن يصف القبيلة كما يصفها الآخرون، فهو كان يعتبر ذلك معروفا عند الناس، فقد اهتم بالنواة، الدينامية التي تعتمد عليها القبيلة وتستعملها لإخضاع القبائل الأخرى لتشكل الحلف ثم تنتقل إلى تأسيس الدولة. نظرية ابن خلدون هي نظرية دينامية لأنها تتناول العصبية. في حالة الأنثروبولوجيين الفرنسيين والأمريكيين يكتبون عن هذا المفكر بقالب جامد مثلا: مكونات القبيلة، كيف تواجه واحدة أخرى. بينما نجد ابن خلدون وقد طرح على نفسه سؤالا لم يحظ بالاهتمام الكبير وهو: كيف تتكون القبيلة؟ لم يطرح على نفسه الأسئلة التي طرحها الباحثون الغربيون أي الاهتمام بأجزاء القبيلة، كان يبحث عن تأسيس القبيلة بمفهوم تأسيس القوة، وعالجها في نظرية تأسيس الدولة، والغرب يعترف بسبق ابن خلدون في هذا المجال (نظرية الدولة). ومن هنا الاهتمام بالهاجس بالقوة وكيف تستطيع قبيلة أو فخذة أن تستوعب فروعا أخرى في نفس القبيلة، وهنا نرصد ما هو المحرك السياسي لبناء الدولة بفعل عملية الاستيعاب. وهكذا، فقد اهتم العرب بدينامية تَكَوُّنْ القبائل بوسيلة العصبية مقارنة مع الكتابة الأنثروبولوجية الغربية التي بقيت حبيسة منهج وتنظير استاتيكيَيْن. فالمشروع انبنى على مقابلة بين الرصدين في موضوع محدد كمثال، وهو موضوع القبلية، والمنهج هنا استلهمته من كتابات عبد الكبير خطيبي صاحب تعبير “النقد المزدوج”، ومن كتابات عبد الله العروي، صاحب نقد “الكتابات الاستعمارية”، واعتماد الكتابات المغاربية باللغة العربية، وكذلك الأرشيف بتلك اللغة، لبلورة صورة لمجتمعاتنا مغايرة للصورة التي كانت قد ظهرت في الكتابات الاستعمارية، وباللغة الفرنسية على الخصوص. عندما يتم وضع إطار نظري و تحتك النظرية العربية مع الغربية، مثلا من خلال المقارنة، يتم إنتاج خطاب جديد مستقل عن الاثنين، ولا يدعي امتلاك الحقيقة بل إعادة صياغة المفاهيم وتجديد المجهود النظري.
هناك من يعتبر أن الدراسات الأنثروبولوجية كانت مظهرا للاستشراق، وأن هذا النوع من الدراسات كان لخدمة الكولونيالية فقط، ولهذا يأتي رفض الأنثروبولوجيا من طرف عدد من المفكرين مثل إدوارد سعيد مثلا.
عندما أكتب في مجال الأنثروبولوجيا دائما أراعي هذا الجانب أو الهاجس، ولهذا أكتب وأقوم بتفسير الخلفيات نظرا لهيمنة هذا التصور، أي ربط الأنثروبولوجيا بالكولونيالية. أولا، في العلاقة الخاصة بالبحث في الميدان سواء بين أنثروبولوجي أجنبي أو منتم مثل حالتي لا يمكن أن تحسمها العلاقة السياسية القائمة على القوة، وهذا استنبطته من كتابي “الشيخ والمريد”. ولدي تجارب شخصية في هذا الشأن، فقد كنت موظفا في مكتب الري ومسؤول عن الأبحاث السوسيو-اقتصادية من أجل التنمية بواسطة الري العصري، وكنت أنجز أبحاثا حول استعمال الماء في إقليم ورزازات (جنوب شرق المغرب)، واكتشفت أنه لا يمكن إجبار الناس بالقوة على المشاركة في الأبحاث مثل الرد على الاستفسارا، تأكدت أن السلطة والمعرفة غير كافيتين وغير حاسمتين لأن الناس كانت تعرض عني بل ويشككون في أبحاثي. وثانيا، الأعمال التي أنجزها الباحثون الأجانب سواء كانت إيجابية أو سلبية أصبحت جزء من الواقع. مثلا، كان “العرف” شفويا في المغرب، وقام الفرنسيون بتوثيقه، وبعد مرور الوقت بدأ تطبيق هذا العرف المكتوب من طرف الفرنسيين الذين نقلوه كما شرحه لهم الوجهاء. المفارقة هنا هو رفض ذلك الإرث بالكولونيالي بينما هو يطبق بين الناس. ثالثا، أنا أستعمل دائما الأرشيف العربي مثل أرشيف العائلات والزوايا، وأبحث عن معطيات ومعلومات تعود الى قرون سابقة، قبل استعمار الأوروبيين للمغرب مثلا، وخطابات أنثربوبولوجية مثل كتاب البيروني” “تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مردودة” الذي يعود للقرن 11 وكأنه أنثروبولوجي من عصرنا. وعلى ذكر البيروني، فقد اعتمدته مصدرا ولم أجد فيه “النبي” حسب ما جاء عند بعض الباحثين في التعليق على كتابي. وعليه أبحاثي تنطلق من أرشيف غير كولونيالي في الكثير من الأحيان. اعتمادي على الأرشيف ما قبل الاستعمار يدفعني إلى المقارنة مع الأرشيف أو البحث الكولونيالي. عموما، لا يمكن للضغط السياسي أن يتحكم في العلاقة العلمية، لا يمكن أن أقول إنه في وقت معين كان هناك غياب للتوازن بسبب الكولونيالية، وبالتالي نرفض كل شيء. علاقة برفض الأنثروبولوجيا لأنها مظهر من مظاهر الكولونيالية. بالفعل، لقد وجه إدوارد سعيد ضربة للاستشراق الأورو-أمريكي، وتسبب في حركة نقدية كاسحة من مظاهرها رفض الأنثروبولوجيا من خلال تحججه بالتراتبية المرتبطة بالهيمنة الكولونيالية، كأساس أول ثم نوعية المعرفة التي هي نتاج الهيمنة. فتحتْ مساهماته الفكرية أبعادا أخرى مثل تجديد النقد في معارف مثل التاريخ والأدب. وكانت تجمعني بإدوارد سعيد علاقة وكنت أتواصل معه وأنا معجب أيما إعجاب بنظريته الخلاقة، غير أنني لا أتفق معه عندما يطالب بتهميش الأنثروبولوجيا بمبرر أنها “مصابة بداء الكولونيالية”.
تُعَد دراسة الأمريكي كليفورد غيرتز التي أنجزها في الستينات حول المجتمع في مدينة صفرو المغربية والصادرة في كتاب ” “مرجعا في الدراسات الأنثروبولوجية بتأسيسها للمنهج التأويلي في الأنثروبولوجيا أو ما يعرف كذلك بالرمزي، وجرى تطبيق هذا المنهج في مناطق متعددة من العالم. ألا يعني ذلك وجود نوع من الكونية في الحياة البشرية بتعبير الراحل كلود ليفي شتراوس؟
سيكون جوابي بنعم، ولكن أنا مجبر على القول لا. عندما تتحدث عن ليفي ستراوش فهو كان يقوم بالتنظير بخلفية نظرية مفادها أن العقل البشري هو نفسه أينما ذهبت، وركز على الفكر البدائي في بعض جوانبه مثل المرموزات إذا قمنا بتطبيق البنيوية سنجد أن الفكر البشري له قواسم مشتركة. لكن كليفورد غيرتز الذي أخذت عنه ويعترف له كبار الأنثروبولوجيين بأنه مجدد في الدراسات الأنثروبولوجية، يقول لا لمثل هذه النظرية. في بحثه الميداني في مدينة صفرو، يقوم بوصف السوق من خلال الحديث مع جميع مكونات السوق من باعة ومشترين وحرفيين ويقدم لنا كيف يفهم المغاربة السوق وفق مميزات خاصة بهم. مثلا يصف عملية جمع المعلومات التي يقوم بها المشتري عن البائع والتي كانت هي الضمانة الحقيقية لدينامية التجارة والعلاقة الاقتصادية وكيف ترى مكونات السوق الإنتاج، وهي مختلفة عن العلاقة الاقتصادية في أوروبا. مثلا، لم يكن غيرتز يقول أو يجيب على تطور السوق المغربية إلى سوق رأسمالية أو يدعو الى فرض العصرنة على العلاقات الاقتصادية. غيرتز كان يشدد على التعامل مباشرة مع المصدر، أي سماع الناس، كان يقول كأنثروبولوجي بأنه يجب الاستماع لما يقوله المغاربة، ولا يقصد بالضرورة الصوت السياسي بل نمط عيشهم وتصورهم. لا ننسى أن أبحاث غيرتز جاءت ضمن انشغالات الولايات المتحدة بالدول الحديث الاستقلال أو ما يسمى “الدول الجديدة أو الشابة”. أن غيرتس كان يتقبل المناقشة بصدر رحب وفي جميع المواقف يقول إن التنظير يجب أن يكون منفتحا وقابلا للنقد والأخذ والرد بالحجة. ولا مجال لدعاوي الكمال والصواب التام لأن ذلك يسد باب التطور. كانت لي به علاقة وثيقة ونقاش لا ينقطع.
هل يمكن القول بأن السوسيولوجيا قد تبتلع الأنثروبولوجيا مستقبلا بسبب درجة التشابه في المنهجية ومواضيع البحث أم أن العالم ومنه العالم العربي يحتاج الى الأنثروبولوجيا كمعطى ثقافي لدراسة الحاضر والمستقبل؟
التخصصان متقاربان ، ففي بعض الحالات مثل حالة فرنسا ، مارسهما المؤسسون معًا ، على سبيل المثال دوركهايم وماوس. تعاملت الأنثروبولوجيا مع ما يسمى بالمجتمعات “البدائية” أو “التقليدية”. وتعامل علم الاجتماع مع المجتمعات التي شهدت تغيرات في اتجاه الحداثة. تم انتقاد هذا التقسيم والتخلي عنه. لكن التخصصين لهما تقاليد متميزة فيما يتعلق بتاريخ كل منهما، والأسئلة التي توجه البحث والقضايا والمفاهيم والأساليب. لديهما خلفيات نظرية مختلفة على الرغم من تداخلهما، فالأنثروبولوجيا تفضل الممارسات الثقافية والمواقف الدقيقة والمحادثات مع أعضاء الجماعات البشرية قيد الدراسة. بشكل عام، بما في ذلك في الدول العربية، فإن التخصصين الآن في تغيير كامل. لا يمكننا حقاً التنبؤ بما سيكونان عليه مستقبلا. ديناميكيتها، على أي حال ، كبيرة ونتائجها قوية للغاية. ما ستكون عليه التشكيلات المستقبلية. ديناميكيتهما، على أي حال، كبيرة، ونتائجهما مقنعة تمامًا.