يبحث الكاتب الفرنسي اللبناني الأصل بول عودة في كتابه «من سيشهد لنا؟ ألبير كامو مقابل ذاته عينها» في فكر كامو وبذوره كما في مسيرته وحياته من خلال كتاباته.
يتساءل كامو في «الإنسان الثائر» عن معنى حياته ويستنتج أنّ هذا المعنى يكمن في التوكيل، في الـ «توكيل الأصلي» وفق تعبير بول عودة، وهو يكمن في الرسالة التي يشعر بها الكائن البشري، والتي هي طلب التزام يتلقّاه المرء عندما يصغي إلى رغبته. وتكمن رغبة كامو في كسر صمت عانى منه منذ طفولته، حيث عاش مع أمّ صمّاء وشبه خرساء وصار تعلّقه بها مثل «صمغ يلتصق بالنفس». وحدها الكلمة تصلح الضرر، والضرر الأوّل هو الصمت لأنّه لا إنسانيّ بل حيوانيّ، وفق كامو، ويتحوّل بلا عقلانيّته ولا إنسانيّته إلى سبب جوهريّ للقلق. ويصبح الصمت عند كامو مرادفاً للأم ويولد من هذا التماهي بين الصمت والأم الشعور بالغربة الذي يسمّيه عودة «الغريبانيّة» (étrangèreté).
ويظهر كامو في كتاب بول عودة كفيلسوف المفارقات الذي يعاني من الصمت، غير أنّه يرى في الكلام خيانة للصمت. وتتخذ الخيانة هنا بعداً فينومينولوجيّاً وهو الكشف والإظهار بحيث يصبح الإنسان موضع هذه المفارقة وهذا الاختلاف بين الكلمة والصمت. ويتحوّل الصمت في قلب هذه المفارقة إلى صوت لا إنسانيّ لكنّه عاطفيّ وهو الحنان. ويصبح كامو هو الموكّل في أن يجعل الصمت يتكلّم، أي في أن يشهد. وتتمّ هذه الشهادة في العمل الفلسفي والأدبي والفني. من يشهد لنا؟ بل من يشهد فينا؟ كتاباتنا! ويحوّل كامو ثقل الصمت إلى «جملةٍ انفعال».
ما هي كلمة كامو وأين نجدها؟ هنا يكمن إبداع عودة وقراءته الجديدة والفريدة لفكر كامو، إذ لم يرَ في كتاباته البعد السياسي والفكري الذي تحدّث عنه كثيرون من الباحثين حول فكر كامو بل يرى فيه، وفي شكلٍ خاص، بعداً أخلاقيّاً وفنيّاً.
يتوجّه كامو إلى ذاته محاولاً بناء حقيقة بعدما أدرك أنّه عاش طوال حياته كذبةً، بل عاش على هامش العالم، ومن هنا عبارته الشهيرة التي كتبها في مذكّراته عام 1959، قبل بضعة أشهر من وفاته، وبعد خمسة أعوام من الصراع مع ذاته: «أطلق على نفسي الحرب وأدمّر ذاتي أو أولد من جديد وهذا كلّ شيء». وهذه الولادة الجديدة هي ولادة للذات وفي الذات بعدما عاش كامو أخلاق الآخرين. ما الذي حضّه على الشهادة؟ إنّه الحكم الذي يجعل الإنسان نبيهاً في أعماله، وحذراً في آن واحد. وحضّه أيضاً على هذه الشهادة الشعور بالعبث، فأراد الكلام الذي يشكّل الداء والدواء لأنّه يفرّق ويجمع . وفي هذا الإطار، يقرأ عودة كامو انطلاقاً من إطاره التاريخيّ، باعتبار أنّ كامو هو ابن بيئته الذي يرفض كلّ حكم عليه.
كامو هو ألمٌ وجرحٌ وسرٌّ لم يتوقّف قطّ عن محاولة الخروج من واقع أنّه أصبح ضحيّة حكم الآخرين، ضحيّة حكم سارتر الذي أطلق عليه عودة فعل «قتل الأخ» حين وصفه بالـ «بورجوازيّ»، ولهذه الكلمة صدى يتردّد بوحشيّة داخل كامو. وهو ليس فقط ضحيّة الآخرين، بل هو أيضاً، وفي شكل خاص، ضحيّة ذاته. في «الجاحد» كما في «السقوط» أمثولة كبرى وهي أنّ ضحيّة الآخرين هي قبل كلّ شيء، وفي شكل خاص، ضحيّة ذاتها لأنّها تملك نفــساً مستعــــبَدة وتـــبحث باستمرار عن سيّد تقدّم له كلّ شيء حتى ذاتها كذبيحة: «أصبحتُ في الواقع متوحّداً من الآن فصاعداً ولكن بخطأ منّي»، يقول كامو. هنا يكمن استنتاج الفشل. ولكن، يبقى له الأمل باختراق جدار المستحيل وذلك لا يحصل إلّا في لغة خاصّة.
في «الغريب»، يتكوّن الحيّز الأدبي من صورٍ فيها الكثير من الحركة والمفارقات، ميرسو لن يبقى بعد الآن رهين الكآبة واللامبالاة، لكنّه لا يريد من خلالهما سوى الوعد بالحياة التي تحتويها سرّاً فيتصالح مع ذاته ويتحوّل الموت إلى حياة. وهنا السؤال: أليس في كلّ موت حياة؟ أو بالأحرى أليس الموت وجهاً آخر للحياة بمعنى أنّه هو الذي يجعل المرء يدرك معنى الحياة وعمقها، باعتبار أنّ النقيض يُظهر النقيض؟
يتماهى كامو ببطله ميرسو في قدريهما إذ يقبل الاثنان الحكم عليهما بالموت الذي يشكّل عودة إلى الذات من خلال شروط ثلاثة: إدراك أن فقدان الأمل ليس عكس الحب، بل هو وجهه الآخر، إعادة بناء الصلة مع الأصل أي مع الصمت، الطموح إلى الولادة الجديدة، بل إلى القيامة.
في مؤلّفات كامو تواصل مستمرّ بين فقدان الأمل بالحياة وحب الحياة، وتصبح الطفولة مسرح الأنيّة. إنّ صمت ميرسو هنا يتعارض مع ضجيج العالم، وهو استعادة لصورة أم كامو أو في شكل آخر لصورة طفولته.
في «الإنسان الأوّل» الذي يغلب عليه طابع السيرة الذاتيّة، تنقلب المقاييس إذ لا يعود الصمت لا إنسانيّاً، بل يصبح ما فوق إنسانيّ وأكثر منطقاً من الكلمة وأكثر عقلانيّة من العقل وذلك لأنّه «معبد العدالة وغطاء الحب». «الحب صمت»، يكتب كامو في مذكّراته، ويتحوّل هذا الصمت بحنانه إلى جنّة. تريد نفس كامو أن تعيش كلّ شيء من جديد، وفي هذه الحياة الجديدة لم تعد الثورة هي المحور، بل الحب. ويرتكز كلّ هذا على إشكاليّة جماليّة أخلاقيّة إذ يعطي كامو أعمالَه علّةً جديدة للوجود حين يكتب ليجعل الصمت كاملاً.
نستطيع القول إنّ كتاب بول عودة يتبع نمط الـ «كريشندو»، فهو يحاول إظهار أن كلّ شيء بدأ مع كامو من الـ «يجب»، فوُلد انفعال في قلب كامو الذي سمع صوت الصمت واتّخذ على عاتقه أن يجعله يتكلّم من دون أن يخونه، متسلّحاً بالخطاب وملاحقاً عدالة من دون حكم في قلب أزمة وجوديّة عميقة.
يتمحور القسم الثاني من الكتاب، وفي شكل حوار، حول مسألة الحكم والعدالة. فالعدالة هي المنشودة، أمّا الحكم فهو خطأ العدالة أو خطيئتها. ما معنى الحكم؟ في علم المنطق الأرسطي، الحكم محموليّ أي أنّه يقوم على أن ننسب محمولاً إلى الحامل. ويقول عودة هنا إنّ للمحموليّة ركيزة فينومينولوجيّة: «تستند المحموليّة (…) عينها إلى ركيزة علينا أن نصفها بالفينومينولوجيّة لأنّنا فقط حين نظهر ونبيّن أو نسمح للحامل الذي يُنسَب محمول إليه أو يُنفى عنه بأن يظهر، عندها يستطيع الحكم أن يطمح إلى أن يكون صحيحاً» (ص 141). واللافت في هذا القسم هو قراءة عودة الفينومينولوجيّة للحكم، إضافة إلى ربطه فكر كامو بفكر نيتشه وكافكا ولاكان…
إنّ الحكم الذي يرفضه كامو هو حكم الواحد على الآخر، وحكم الجميع على الجميع، فلم يعد الجحيم عنده هو الآخر كما عند سارتر، بل هو حكم الآخر. ويتميّز كامو بربطه بين الحكم التشريعي والحكم القضائي والحكم المنطقي فيصبح المحمول مُـنتَجاً مُفَبرَكاً للذي يُنسَب إليه.
ويرى عودة في «السقوط» «انحجاب الذات» وفقدانها خلف المحمول.
لقد أصبح عالمنا كهفاً ومحكمة كونيّة من دون نوافذ ولا أبواب. وفي هذا الكهف، يصبح الاتهام كلّ العقاب. ويعتبر بول عودة أن الدعوى – العالم كافكاويّة وكامويّة بامتياز وفي آنٍ. وأصبح البشر هم الذين يقومون بمحاكمة أنفسهم وبمحاكمة الآخرين. فكامو لم يتألّم فقط من حكم الآخرين عليه، بل أيضاً وفي شكل خاص من حكمه على الآخرين، من هذه السهام القاتلة التي نقذفها عليهم.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن عودة يشدّد على الشعور بالذنب الذي رافق كامو وهذا الشعور ناتج، وفق الباحث، من كون كامو أصبح عكس أمّه أي أنّه أصبح خطيباً ولا بدّ لمن يتكلّم من أن يلجأ إلى الأحكام.