صفحات مجهولة من تاريخ المغرب الحضاري في معرض فرنسي

المعالم الاثرية لوليلي المغربية

يقام حالياً في متحف «موسم» المخصص للحضارات في أوروبا والمتوسط معرض بعنوان «روائع من فولوبيليس». وفولوبيليس هو الاسم اللاتيني لموقع مدينة وليلي في المغرب المسجلة عام 1997 على لائحة التراث العالمي. إنه موقع أثري ساحر يقع على بعد ثلاثة كيلومترات من مدينة مولاي إدريس زرهون، مؤسس الدولة الإدريسية في المغرب.

ويروي المعرض، عبر مجموعة من التحف التي تعدّ من روائع الفن اليوناني-الروماني، تاريخ مدينة عريقة عرفت ازدهاراً كبيراً خلال مرحلة امتدت من القرن الثاني قبل الميلاد حتى القرن الثاني بعده. وقد استفادت من موقعها الجغرافي الذي أمّن لها المياه والأراضي الزراعية الخصبة ومواد البناء من جبل زرهون، وهذا ما سمح لها بتشييد قصورها ومعابدها الفخمة وغيرها من منشآتها العمرانية.

قبل احتلال الرومان شمال أفريقيا حوالى عام 40 بعد الميلاد، كانت وليلي عاصمة لمملكة «موريتانيا الطنجية»، وهو الاسم القديم للمغرب. ثم صارت جزءاً من الإمبراطورية الرومانية التي شكّلت مرحلة استثنائية في تاريخ حوض المتوسط لأنها أتاحت، بفضل السلام الذي فرضه الرومان، التبادلات التجارية والبشرية والثقافية المكثفة مما أدى إلى نشوء فن يوناني- روماني موحّد في الشرق والغرب من ضفتي المتوسط.

فنّ له الكثير من القواسم المشتركة من ناحية الجماليات والمواضيع المختارة، سواء في المنحوتات الحجرية والبرونزية أو اللوحات الفسيفسائية والرسوم الجدارية وتصاميم العمارة، ومنها عمارة المسارح وأقواس النصر. وهذا لا ينفي بالطبع المؤثرات المحلية لكل منطقة، غير أنّ هذه المؤثرات كانت تنصهر في إطار ما يعرف بالفن اليوناني- الروماني.

المعرض المقام حالياً في متحف «موسم» في مرسيليا هو شهادة هامة على الثقافة وعلى الذوق الفني الذي ساد في الدول المتوسطية منذ المرحلة اليونانية وحتى القرن الثالث بعد الميلاد. فالروائع المعروضة عثر عليها في المغرب، لكن لا نعرف بالتحديد أين صنعت لأنّ الفنانين كانوا كالتجار يتنقلون بحرّية من مدينة إلى أخرى ومن قصر إلى آخر.

وكان الملوك المتوسطيون، ومنهم ملوك المغرب وشمال أفريقيا، متأثرين بالثقافة اليونانية- الرومانية. ومن أشهر أولئك الملوك، الملك يوبا الثاني الأمازيغي الذي عرف بثقافته الواسعة وتشجيعه الكبير للفنون، كما أنه كان كاتباً، وقد ألّف العديد من الكتب باللغة اليونانية، في الفلسفة واللغة والأدب. وكان أيضاً من أهم مؤرخي العالم الهيليني.

تروي كتب التاريخ أنّ والده يوبا الأول، كان من سلالة الملوك البربر، وأنه حكم جزءاً كبيراً من شمال أفريقيا، لكنه أقدم على الانتحار بعد هزيمته على يد الإمبراطور يوليوس قيصر.

تربى يوبا الثاني في روما وتزوج من كليوبترا سيليني، ابنة كليوبترا الملكة المصرية الشهيرة ومارك أنطونيو. توفي حوالى عام 23 بعد الميلاد، وقد عثر في وليلي على تحف عدة من عصره وعصر والده يوبا الأول، ومنها منحوتة برونزية معروفة باسم رأس يوبا الثاني، وهي التي اختيرت ملصقاً للمعرض بسبب مستواها الفني الرفيع وتجسيدها للجمالية الإغريقية – الرومانية بصورة بهية.

وتطالعنا تحف أخرى، من منحوتة الملك يوبا الثاني إلى منحوتات تجسد شخصيات سياسية هامة أو أسطورية كما في منحوتة الإله باخوس وغيره من أبطال الأساطير الإغريقية.

يؤكد المعرض أنّ المغرب لم يكن بمنأى عن التيارات الفنية التي هيمنت على ضفتي المتوسط خلال الحضارتين اليونانية والرومانية. وكان الرومان مولعين بالفنون اليونانية ويتهافتون على شرائها. وظل الفنانون متأثرين بالجمالية اليونانية سنوات طويلة كما تشهد على ذلك التحف التي عثر عليها في أنقاض المنازل الفخمة في فولوبيليس، وتؤلّف اليوم جزءاً من مجموعة «متحف الآثار» في مدينة الرباط المخصص للحضارات التي تعاقبت على المغرب قبل الفتح الإسلامي. وقد أعارها المتحف المغربي لمتحف «موسم» في مرسيليا بمناسبة المعرض الجديد.

إن التنقيبات الأثرية التي أجريت في أنقاض منازل فولوبيليس والتي بدأت منذ القرن التاسع عشر، بينت الازدهار الاقتصادي للمدينة. وكان من تجليات هذا الاقتصاد اقتناء التحف ومن أهمها التحف البرونزية التي صنع معظمها في إيطاليا أو اليونان واستقدمت بحراً إلى المغرب. وهي تحف متنوعة، كما أشرنا، وتشتمل على منحوتات لشخصيات تاريخية معروفة أو لبعض أبطال الأساطير، أو مشاهد من الحياة اليومية. هناك أيضاً منحوتات الأطفال والأقنعة ومنها قناع يرجع إلى القرن الأول بعد الميلاد وقد عثر عليه عام 1882 في أحد حمامات فولوبيليس، ويمثل وجه رجل شاب. قناع يتميز بقوة تعبيرية تذكّر بأقنعة المسرح الياباني.

هذه القوة التعبيرية تطالعنا أيضاً في منحوتة برونزية أخرى عثر عليها عام 1934 وتمثل رجلاً عجوزاً يرتدي الزيّ اليوناني المخصص للعمال والجنود والصيادين.

ولا بد من الإشارة أخيراً إلى الكتاب الفخم المواكب للمعرض والذي ضم أبرز محتوياته، وقد صدر عن دار «آكت سود» بالتعاون مع متحف «موسم»، ويحتوي على دراسات قيّمة حول المغرب قبل مرحلة الحضارة العربية- الإسلامية وحول الأساليب الفنية التي سادت في حوض المتوسط خلال المرحلة الرومانية.

مقالات ذات صلة

Sign In

Reset Your Password