عند زيارة كل مسؤول أمريكي خاصة من حجم وزير الدفاع مثل لويد أوستن الحالي للشرق الأوسط ومنه الخليج العربي، يبدأ الحديث عن دور أمريكي جديد في الخريطة العسكرية في المنطقة ومنها فرضية الحرب الأمريكية-الإسرائيلية ضد إيران. غير أن معطيات الوقائع والتطورات المستقبلية، تبرز تراجع الاهتمام العسكري الأمريكي بالمنطقة، وقد يشكل الاتفاق السعودي -الإيراني بداية منعطف حقيقي في هذا الشأن.
وشملت زيارة لويد أوستن كل من مصر والأردن وإسرائيل وبغداد، أي أطراف متعددة في الشرق الأوسط، بينما لم يزر العربية السعودية التي كانت دائما تستقبل المسؤولين الأمريكيين عند كل جولة لهم للمنطقة. وفي ظل التطورات التي يشهدها العالم لاسيما بعد الحرب الروسية ضد أوكرانيا. ويمكن اعتبار هذه الزيارة كلاسيكية لا تحمل أي مستجد قد تكون له انعكاسات مستقبلا. إذ لم يعد الأمر يتعلق هل واشنطن ستشن الحرب ضد إيران بسبب البرنامج النووي؟ بل ماذا يشكل الشرق الأوسط والخليج العربي أساسا في الأجندة العسكرية الأمريكية؟ وهل ستحافظ واشنطن على نفوذها ولو الحد الأدنى في المنطقة؟
في خطاب الأمة سنة 1980 موجه إلى الشعب الأمريكي، قال الرئيس جيمي كارتر «يحاول الاتحاد السوفييتي الآن ترسيخ موقع استراتيجي وبالتالي يشكل تهديدًا خطيرًا لحرية حركة النفط في الشرق الأوسط. ليكن موقفنا واضحًا تمامًا: أي محاولة من قبل أي قوة خارجية للسيطرة على الخليج العربي ستُعتبر تهديدًا للمصالح الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية، وسيتم صد مثل هذا الهجوم بأي وسيلة ضرورية، بما في ذلك القوة العسكرية». ما سمي وقتها بعقيدة كارتر، جرى ترجمتها إلى واقع ملموس من طرف البنتاغون مباشرة، من خلال التواجد العسكري المستمر في الخليج العربي، وهو تواجد سيلعب دورا في الحرب الخليج ثم في منع تغلغل السوفييتي في المنطقة ونسبيا الروسي والصيني لاحقا.
وبعد مرور 36 سنة، صرح الرئيس الأمريكي باراك أوباما لمجلة «أتلانتيك» خلال اذار/مارس 2016 بأن الشرق الأوسط لم يعد مهما للولايات المتحدة، بل واستعمل تعابير قوية مثل أن «العرب لم يعودوا مهمين للأدارة الأمريكية». في ذلك الحوار الشهير الذي كان انعكاسا للعقيدة الأمريكية الجديدة التي جرت بلورتها، أسهب باراك أوباما وقتها في تبرير عدم تدخله عسكريا في سوريا ضد نظام بشار الأسد، وبسط رؤيته للشرق الأوسط. لم يتردد في اتهام السعودية بنشر التطرف في العالم بمذهبها الوهابي. وفي الوقت ذاته، لم يتردد في تبرئة إيران نسبيا من التطرف، ولكنه حمّل كلا من طهران والرياض مسؤولية خوض حرب عقائدية عبر أطراف ثالثة في الشرق الأوسط، ومسرحها لبنان والعراق واليمن وسوريا. وكشف أوباما عن معطى رئيسي وهو الابتعاد عن مشاكل العالم العربي-الإسلامي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ولعل المنعطف، كان هو تراجع البنتاغون عن حماية كبيرة لأمن دول الخليج ومنها السعودية في حرب اليمن. والمثير في الأمر هو سحب البنتاغون لمنظومة باتريوت من الأراضي السعودية علاوة على التصريحات الشهيرة للرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب أنه إذا كانت السعودية ودول الخليج تريد الحماية فعليها تحمل الفاتورة.
وتوجد ثلاثة عوامل وراء تراجع منطقة الشرق الأوسط في الأجندة العسكرية الأمريكية تماشيا مع أجندة مصالح واشنطن مستقبلا، وهي:
أولا، استحالة شن البنتاغون حربا ضد إيران بسبب مشروعها النووي، إذ أن الحرب لن تمنع طهران من الحصول على القنبلة النووية إن قررت ذلك. وأصبحت الحرب الأمريكية-الإسرائيلية ضد إيران بمثابة أسطوانة غير قابلة للتطبيق في ظل القدرة العسكرية التي اكتسبتها إيران بتطوير قدراتها الحربية. ويكفي أنه جري الحديث عن حرب ضد إيران منذ عقدين، ولم تتم حتى الآن.
ثانيا، منذ سنوات، لم تعد الولايات المتحدة تعتمد على النفط العربي، بل لديها من الاحتياط ما يفوق الدول العربية وأصبحت تصدر هذه الطاقة علاوة على الغاز. ويضاف إلى هذا، رهان العالم على الطاقات الجديدة لتحل محل النفط. في الوقت ذاته، تدرك واشنطن استحالة استمرار سياسة «البترودولار» أي تأدية فواتير النفط عالميا بالدولار في ظل تقدم العملة الصينية، واعتماد عدد من الدول الكبرى على عملاتها الوطنية في التبادل التجاري مثل حالة روسيا والصين، وقد يتم تعميم هذا على دول البريكس. وعمليا، عدم ارتباط النفط بالدولار يترتب عنه تراجع الخليج العربي في أجندة الولايات المتحدة.
ثالثا، اتضح التوجه الجيوسياسي الجديد للولايات المتحدة بل وبدأت عملية تنفيذه منذ سنوات، ذلك أن منطقة المحيط الهادي-الهندي وأمريكا اللاتينية ستصبح تمثل أكثر من 60 في المئة من الاقتصاد العالمي. فقد بدأت الشركات الكبرى تنقل نشاطها إلى المنطقة، وارتفعت الاستثمارات بشكل كبير جدا، وبدأ الجيش الأمريكي يتمركز بشكل أكبر في هذه المنطقة من العالم، التي ستضم خلال 2040 الاقتصاديات الخمس الكبرى وهي الصين والولايات المتحدة والهند واليابان ثم أخرى ذات وزن كبير وهي المكسيك علاوة على روسيا بمواردها الطبيعية وقدراتها العسكرية.
رغم استمرار التأثير الأمريكي على الرياض، فقد راقبت واشنطن الاتفاق السعودي-الإيراني الموقع الجمعة 10 اذار/مارس 2023 الذي يعد بداية مرحلة من التفاهم، فهو اتفاق سيزيل عنها الكثير من الأعباء وإن كان بواسطة صينية. وموقف واشنطن هذا، يدل على تراجع المنطقة في أجندتها.