غادر مهنة الصحافة «مكرها» بعدما أثقلت الغرامات كاهل مقاولته الإعلامية، وفي أمريكا أكمل المسار، قبل أن يدخل مجال حقوق الإنسان من بابه الذي لا تشتهي السلطات المغربية الرياح الآتية منه، ولا سلطة لها لكي تغلق هذا الباب؛ باب تقارير منظمة دولية هي «هيومن رايتس ووتش». في هذا الحوار يحدثنا أحمد رضى بنشمسي عن حساسيته السابقة من اقتراب الحقوقيين منه ومن أن تطلق عليه صفة «مناضل»، ثم عن النقلة التي دفعته إلى أن يصير مناضلا «رسميا» فيما بعد، كما يحدثنا عن معاناة الصحافة المستقلة حين تقترب من الخطوط الحمراء، خاصة إذا خطت بالدارجة.. وعن «المساعي الحميدة» التي لا يبقى لها من جدوى حين تصير المواجهة مباشرة مع دولة…
بعين الصحافي السابق، كيف تنظر إلى واقع الصحافة المغربية اليوم؟
لقد تغير واقع الصحافة، بل إن طبيعة الصحافة نفسها تغيرت. كانت الجرائد هي «رأس الحربة» في الصحافة في الوقت الذي كنت فيه ممارسا بهذا المجال في المغرب، ثم ظهرت الراديوهات، وإن لم تكن الأخبار اهتمامها الأول، فهي تركز أكثر على برامج مجتمعية وعلى الموسيقى وغير ذلك. لكن الآن أصبحت الصحافة تمارس أساسا على الأنترنت، وهذا أمر فرض نوعا جديدا من الصحافة يتميز بالمقالات القصيرة، وإمكانية صياغة مقال انطلاقا من خبر واحد، في حين يتعذر ذلك في الصحافة الورقية، فالصحافي عليه أن يبحث لكي يحرر مقالا طويلا، إضافة إلى انتشار الفيديوهات التي ربما أصبحت، أو ستصبح قريبا، وسيلة الإخبار الأكثر انتشارا. إذن، فطبيعة الصحافة تغيرت، ولا يمكن أن أقارنها بواقع حال الصحافة قبل عشر سنوات. لكن في ما يخص المواضيع، فإن ما يطرح في الصحافة المغربية اليوم يبدو، عموما، أقل جرأة من مضامين ما كان يكتب في عشر سنوات أو خمسة عشر عاما مضت، وأظن أن تراجع الجرأة هو نتيجة تراكم ترهيب الصحافيين والناشرين، فمناخ حرية التعبير اليوم ليس هو مناخ ما قبل عشر سنوات، والرقابة الذاتية تزايدت، خلافا للرقابة الذاتية في وسائل التواصل الاجتماعي، والتي هي، على العكس من ذلك، في تراجع ملحوظ، وهذا أمر رائع.
هناك انطباع لدى بعض الفاعلين الإعلاميين والحقوقيين بأن العشرية الأخيرة في عهد الحسن الثاني ربما كانت تتميز بانفتاح أكبر في ما يخص حرية الصحافة والتعبير. ما رأيك؟
لا، ليست العشرية الأخيرة للحسن الثاني، بل العشرية الأولى لمحمد السادس هي التي كانت أكثر انفتاحا. في العشرية الأخيرة للحسن الثاني كان هناك انفراج، لكننا كنا بالكاد نخرج من الظلمات، لذلك بدت تلك الإرهاصات، التي تحن إليها الذاكرة، كأنها كانت إنجازا كبيرا، في حين أنها مجرد إرهاصات للخروج من القرون الوسطى. في إطار ما كان يتسم به الوضع آنذاك، فقد كان مجرد أن تكتب لفظ الملك دون أن ترفقه بصاحب الجلالة جرأة خيالية. الجيل الأول الذي بدأ يكتب كلمة «الملك» دون أن تسبقها عبارة «صاحب الجلالة» هو جيلي، وكان ذلك يعد حينها إنجازا كبيرا. هذا ما كان في العشرية الأخيرة للحسن الثاني، ومقارنة بما سبقها من السنوات، كان هناك انفراج، لكن لا يمكن القول إن حرية التعبير كانت أكثر من الواقع الحالي، هذا غير صحيح. حرية التعبير اليوم، رغم كل الانتقادات، هي أفضل من العشرية الأخيرة في عهد الحسن الثاني. إذن، فالمقارنة يجب أن تكون مع العشرية الأولى لمحمد السادس والتي كانت تمتاز بحرية شبه مطلقة مقرونة بمضايقات. كان هناك صراع بين الحرية والمضايقات، وفي النهاية انتصرت المضايقات، لأن المقاولات الصحافية التي كانت تتسم بالجرأة أُغلقت الواحدة تلو الأخرى، أو بيعت، أو هاجر أصحابها… هذا لا يعني أنه ليست هناك صحافة مستقلة اليوم في المغرب. هي موجودة، لكن مناخ حرية التعبير يعطي إمكانيات أقل بكثير مما كان عليه الوضع سابقا.
يرى فاعلون إعلاميون وحقوقيون أن مدونة الصحافة الجديدة تعد تقدما تشريعيا للمغرب في مضمار تعزيز حرية الصحافة، خصوصا أنها خالية من العقوبات الحبسية، لماذا حقوقيو المغرب وبعض صحافييه غير راضين عنها؟
لا يكمن المشكل في مدونة الصحافة بل في القانون الجنائي. فما حدث هو أنهم أزالوا العقوبات الحبسية من مدونة الصحافة ونقلوها إلى القانون الجنائي. في نهاية المطاف، بصفتي حقوقيا لا يهمني أي قانون سيطبَّق، ما يهمني هو هل هناك صحافيون يدخلون السجن أم لا؟ إذا كانوا يعتقلون بمقتضى القانون الجنائي، فما الذي سيدعوني إلى أن أفرح؟ لو كان قانون الصحافة والنشر هو فعلا ما يطبق على الصحافيين وعلى كل من يعبر عن رأيه بحرية، كما يقتضي القانون ذلك، لكان ذلك سببا للابتهاج، لكن الواقع ليس كذلك، مع الأسف.
يعرف مجال الصحافة هجرات مختلفة، سواء عبر تغيير مهنة الصحافة بمهنة أخرى أو الهجرة من البلد. ما الذي دفعك شخصيا إلى ترك مهنة الصحافة؟
أنا تركت المغرب قبل أن أترك مهنة الصحافة، فقد اشتغلت صحافيا في الولايات المتحدة الأمريكية قبل أن ألتحق بهيومن رايتس ووتش. تركت الصحافة في المغرب بسبب تراكم المضايقات طيلة عشر سنوات.
ما الذي يمكن أن تحكيه عن هذه «المضايقات»؟
من الصعب تلخيص عشر سنوات في بضع جمل. تعرضت لمحاكمات جائرة ولمضايقات «لعلك ترضى». مثلا، دخول الشرطة إلى المطبعة وإتلافها مائة ألف نسخة من «تيل كيل» و«نيشان». أن يتبخر في رمشة عين مليون درهم هذا ليس أمرا بسيطا، كيف سنؤدي مصاريف العاملين ومصاريف المطبعة، خصوصا أن تكاليف طبع المجلة كانت باهظة، إضافة إلى أن أجور الصحافيين كانت مرتفعة، كنا مقاولة تستثمر في العنصر البشري، كان معنا خيرة الصحافيين المغاربة… إضافة إلى أنه كل بضعة أشهر تُفتح محاكمة جديدة، وفي كل محاكمة يحكمون بمليون درهم… والاستنطاقات الماراطونية… أنا شخصيا لم أتعرض للاعتقال، ولله الحمد، لكن ذهبت إلى الكوميسارية وقضيت فيها يومين أو ثلاثة أيام… وفي النهاية، كانت القشة التي قصمت ظهر البعير هي المقاطعة الإشهارية، لأنهم أخيرا استوعبوا أن الصحف مقاولات، وأن نقطة ضعفها هي الموارد المالية، فوجدوا أن المقاطعة الإشهارية وسيلة فعالة. «نيشان» كانت أول أسبوعية من حيث الإقبال، بل شكلت ظاهرة مدة سنتين، لكن بسبب المقاطعة الإشهارية انهار كل شيء. فرغم أنها كانت الأسبوعية الأكثر مقروئية في المغرب، اختفت فجأة نسبة 80 في المائة من الإشهار الموجه إليها، ولا يمكن الاعتماد فقط على المبيعات. وهذه مفارقة غريبة، فكونها المجلة الأكثر مقروئية يقتضي أن تكون لديها عروض إشهار أكثر، لأنه بالمنطق الاقتصادي السليم، فالمستشهر يختار من له مقروئية كبيرة لكي يكون عدد من سيرون إشهاره كذلك كبيرا، لكن المنطق السياسي غلب المنطق الاقتصادي السليم، فصارت الإشهارات لا تهرب فقط من «نيشان» و«تيل كيل» و«لوجورنال»، بل تذهب إلى مجلات لا يقرؤها أحد. مجلة كان اسمها «Actuel»، أظن أنها خُلقت فقط لتأخذ الإشهارات من «تيل كيل»، لأن لا أحد تقريبا كان يقرؤها، وبالفعل، عندما أنجزت مهمتها، واضطررتُ أنا إلى بيع «تيل كيل» ومغادرة البلاد، أغلقوها…
في فترة تعرضك للمضايقات، كان هناك تضامن معك من الجمعية المغربية لحقوق الإنسان ومن محامين وحقوقيين، ويقال إنك كنت تأخذ مسافة من هذا النوع من التضامن. هل هذا صحيح؟
لا، ليس مسافة من التضامن. أنا دائما أعتز بهذا التضامن، وأشكر من تضامنوا معنا، لكني كنت آخذ مسافة من إقحامنا في دائرة النضال ونحن صحافيون. كنت أقول، مع كل احترامي وشكري وتقديري للمناضلين الذين ساندونا: نحن لسنا مناضلين.. نحن صحافيون. في ذلك الوقت كان للفرق بين مناضل وصحافي معنى، لأن هدفنا كان هو إنجاز عمل صحافي مهني يقوم بإخبار الناس، وكذلك الدفاع عن بعض القيم. لم ندعِّ الحياد التام، فحين تدافع عن الديمقراطية فأنت لست محايدا، وحين تدافع عن حقوق الإنسان فأنت لست محايدا، لكن أن يقال عنك إنك مناضل، فكأنك تضرب نسبيا صفة صحافي مستقل، لأن النضال يعني أن ما تدافع عنه يسمو على الطابع المهني لحرفتك. نعم، القيم حاضرة، لكن في إطار المهمة الأولى، وهي نقل الخبر والتحري وتقصي الحقائق. لكن، مع تغير الظروف وتكثيف الدولة للهجمات ضد الصحافة المستقلة، صرنا مناضلين «بزز»، هم الذين صنعوا منا مناضلين. لم أكن أحبذ لقب مناضل، كنت أعتبره ينافي صفة صحافي، لكني صرت مناضلا «بالسيف» (يضحك)، لأنه حينما لا تكون هناك معارضة يصير الصحافي ضمن قلائل ممن يمثلون معارضة للنظام. ورغم ذلك فأنا أقول وأكرر: أنا لست معارضا من حيث المبدأ، أنا أدافع عن قيم. حين يقع تجسيدها سأصفق للملك وللحكومة ولمن شئت. حتى وزارة الداخلية وأجهزة الأمن إذا احترمت حقوق الإنسان، سأصفق لها. المعارضة هي أن تكون «ضد». أنا لست «ضد»، أنا «مع» الحريات والحقوق.
… وفجأة صرت حقوقيا؟
(يضحك) إيوا ماشي فجأة عاوتاني… مرت السنوات، وفي ظل تشدد القمع، أصبحت ممارسة الصحافة نضالا في حد ذاته، وحينما وجدت الفرصة لكي أصير مناضلا حقوقيا «مهنيا»، شعرت بأنها صيرورة طبيعية. منذ مدة كنت قد صرت مناضلا «بلا ما نعيق»، ومادمت مناضلا، فلماذا لا أفعلها رسميا؟ والآن هذه هي حرفتي: النضال من أجل حقوق الإنسان.
غالبا ما تنظر السلطة بعين الارتياب إلى التقارير الصادرة عن «هيومن رايتس ووتش» بخصوص المغرب، وتتهم المنظمة بعدم الموضوعية والتحامل.. هل تخلو التقارير من مقاربات سياسية؟
ما معنى السياسة؟ هي أن تدافع ليس فقط عن قيم، بل كذلك عن إيديولوجيات. يعني أن تكون مثلا مع اليمين ضد اليسار أو العكس، أو مع الملكية ضد الجمهورية أو العكس… السياسة هي أن تتبنى توجهات سياسية. لن تجدنا في «هيومن رايتس ووتش» نقول إننا يساريون مثلا، رغم أن العديدين يعتبرون أن حقوق الإنسان هي قيمة يسارية. نحن نقول إن قيم حقوق الإنسان ليست يمينية ولا يسارية، بل هي كونية. نحن لسنا منحازين إلى أي توجه، فقط نراقب هل تراعى قيم حقوق الإنسان أم لا. هذا من الناحية الفكرية، أما من الناحية العملية، فتقاريرنا موضوعية إلى أقصى درجة، ومن يقول إنها منحازة إما أنه لا يقرؤها، وإما أن له مواقف مسبقة، لأن تقاريرنا لا تضم آراء بل معطيات. هناك وقائع، وهذا الكلمة مهمة. نحن نسرد الواقعة تلو الأخرى. سأكشف لك أمرا: اليوم وأنا في الطريق لإجراء هذا الحوار، كنت أقوم بتصحيح تقرير سيصدر قريبا عن الحملة ضد رواد وسائل التواصل الاجتماعي في المغرب. في التقارير تكون اقتباسات، وأنا اقترحت اقتباسا لي كتبت فيه: «إذا استمرت الدولة في قمع حرية التعبير، سيكون هناك رد عكسي، وقد ينتج عن هذا القمع غضب أكبر». وضعت هذا بين مزدوجتين، لكن الخبير القانوني لهيومن رايتس ووتش رفض هذا الاقتباس، وقال إنه لا يمكن أن نخوض في ما سيجري وفي التكهنات، فأجبته بأننا لا نتكهن، بل نسرد وقائع ونذكر بمقتضيات القانون الدولي «والسلام». وهناك نقاش بيننا حاليا و«شوف تشوف» إذا كان الاقتباس سيبقى أم لا. ها أنت ستكتبين هذا في هذا الحوار، وسنقوم بهذا التمرين مع القراء ونرى من سيكسب. هذا لأعطيك فكرة عن الدرجة التي نتفادى فيها كل ما هو غير موضوعي… ويأتي بعدها السي الخلفي أو أي مسؤول في الحكومة ويقول أن تقاريرنا مسيسة، الله يا ودي؟ حتى التكهنات عن الغضب الشعبي ليس من حقنا قولها، فبالأحرى الحديث عن مقاربات سياسية. أين يرون هذه السياسة؟
(مقاطعة) لا يقصد بالتسييس مواقف مساندة لليمين أو اليسار، بل الحديث عن «خدمة أجندات أجنبية»؟
الدفاع عن حقوق الإنسان هو أجندة بحد ذاته، وهو أجندة أجنبية لمن أراد أن يسميه كذلك. نحن نعتبره دوليا أي شموليا، فهو ليس نابعا من المغرب. يريدون خلق الفزع والتهويل بالحديث عن وجود «أجندات»، وهذه الكلمة صارت تخيف وهي غير مخيفة، وكأن هناك مؤامرة ولا نعلم من هؤلاء المتآمرون الذين يريدون القيام بأمر خفي وشرير… نحن لدينا أجندة دولية وهي الدفاع عن حقوق الإنسان، وهو مجال واضح المعالم. الجميل في الدفاع عن حقوق الإنسان هو أنه يكون بمقاييس موضوعية؛ لا نندد باعتقال شخص لأن الأمر لم يعجبنا، بل لأن هناك قوانين دولية جرى انتهاكها. الشخص الذي تحدثت عنه سابقا هو خبير قانوني ضمن المجلس القانوني الذي يضم ثلاثة خبراء هم بمثابة حراس المعبد. الخبراء القانونيون في «هيومن رايتس ووتش» لهم مرتبة عالية في هرم المؤسسة، يحكمون تقريبا في كل شيء، إذن، هم الذين يقررون في آخر المطاف ما أكتبه وما لا أكتبه، إذا ظهر أي انفلات من القانون الدولي يحذفونه. إذن، فإن سرد الوقائع لا يمكن أن يكون مسيسا، إما حدثت الواقعة أو لم تحدث. إضافة إلى ذلك، نحن دائما نأخذ رأي الطرفين في القضية، لا أتحدث عن قضية قضائية دون أن يكون لدي منطوق الحكم أو محضر الشرطة أو حديث من مسؤول رسمي… لا يمكن أن نبني رواية على طرف واحد. قبل أسبوعين، أصدرنا تقريرا عن السجين عبد القادر بلعيرج، وقبل إصداره أرسلنا رسالة إلى مندوبية حقوق الإنسان، وقلنا لهم إننا نريد أن نكتب عن بلعيرج، ولدينا رواية زوجته والمحامي ونحتاج إلى روايتكم. فلم يجيبونا، وبقيت ألح على المندوبية، فقالوا لي إننا أرسلنا رسالتكم إلى مديرية السجون، لكنها لم تجبنا. لكن، حين صدر التقرير، أصدرت مديرية السجون تكذيبا فوريا، وقالت إن ما نقوله هو محض افتراءات، و«كذّبوا» أمورا لم نقلها، ولم يجيبوا عما قلناه. حينما أقول لمؤسسة مسؤولة إن المعتقل في زنزانة انفرادية منذ ثلاث سنوات، ولا يلتقي أحدا حين يخرج للفسحة، وإن هذا خرق لقواعد مانديلا للأمم المتحدة، فهذه معطيات موضوعية ودقيقة، وكان من المفترض أن يجيبني السيد مدير مديرية السجون بدقة. نحن نراسلهم، فلا يجيبون، وحين يكذّبون يروجون مغالطات لم نقلها، ولا يجيبون عما قلناه، وتغلف الصحافة المؤيدة لهم كل هذه الأمور بـ«أجندات مشبوهة». هذا سوء نية.
هناك من يعتبر أنه منذ الاستقلال لم يعرف المغرب إنزالا قويا لصحافة التشهير، كما هو الأمر حاليا. ما رأيك؟ ولماذا؟
بصفتي حقوقيا ليس لي موقف بخصوص صحافة التشهير، فنحن الحقوقيون لا يمكننا أن نحكم على جودة الصحافة. هناك صحافة جدية وهناك صحافة غير جدية، لكن هذا ليس من شأننا، فنحن نتحدث عن حرية التعبير، ومن يريد أن يقوم بالتشهير فهو حر، ومن يعتبر نفسه ضحية يمكن أن يلجأ إلى القضاء.
يقول بعض من تعرضوا للتشهير إن في مثل هذه القضايا غالبا لا ينتصر القضاء فيها لـ«الضحايا»، لذلك لا يتوجهون إلى القضاء المغربي لأنهم فاقدون للثقة مسبقا؟
لدي موقفي الشخصي في التعامل مع التشهير، وهذا ليس قانونا بل فقط موقف لا يلزم أحدا، وهو أنه إذا دخلت في الردود، فأنا أحقق هدف المشهر، وهو أن يكون هناك حديث عما قاله. فمقال التشهير يكون واحدا، وحين أجيب سيصير مقالين، وسأعطيهم الفرصة لكتابة مقال ثالث ردا على ردي، وها هي غادية… وما الهدف من كل هذا؟ اللي مستواه هابط ما غاديش نخليه يجرّني معاه للأرض.
في زمن «تيل كيل» و«نيشان»، كنت تعتبر أن الإسلاميين أخطر ربما من السلطوية؟
لا، ليس أخطر من السلطوية، لا أظن أنني قارنت بينهما، لكن كليهما لديه جوانب خطيرة.
يبدو أن موقفك تغير؟
لا، لم يتغير، لكنه أصبح أكثر تحديدا ودقة il s’est affiné. كنت أنتقد التوجه السياسي للإسلاميين فيما قبل، لأنه كان لدي توجه سياسي مختلف، وهذا من حقي. الآن من موقعي الحقوقي لا أخالفهم التوجه السياسي، بل أخالفهم حين تكون لديهم توجهات مخالفة لحقوق الإنسان. مثلا: حينما يقول نائب المرشد العام للإخوان المسلمين في مصر (قبل اعتقاله وطبعا دافعت عنه عندما اعتُقل) إنه في مساطرهم ومبادئهم لا يمكن أن تصير امرأة مرشدة عامة أو رئيسة الجمهورية، أقول له هذا اسمه تمييز ضد النساء، إذن، فأنا ضدك لأن مبدأك ينافي أساسا وجذريا حقوق الإنسان. حينما يقال لي إن المثلي يجب أن يدخل السجن لأن هذه قناعتنا، أجيب: قناعتك تنافي حقوق الإنسان وسأحاربها. لهذا، قلت لك إن موقفي صار دقيقا أكثر. فيما قبل كنت أعتبر الأمر لا يتوافق ليس فقط مع إيماني بحقوق الإنسان، بل مع إيديولوجيتي.
أي مع موقفك كونك علمانيا؟
نعم. لكن، الآن، مع مرور السنوات وتراكم التجربة، تعلمت ودققت أكثر.
يعني أن علمانيتك حتى هي أصبحت أكثر دقة؟
لا، أنا مازلت علمانيا.
أقصد أنك لم تعد علمانيا على الطريقة الفرنسية؟
نعم، تماما. مثلا، الآن، أعتبر أن فرنسا حين تمنع النساء من ارتداء الحجاب في بعض المواقف، فهذا تجاوز، ليست هذه هي العلمانية. من حق المرأة أن ترتدي ما تريده. قد يقول قائل ربما هناك ضغط لكي ترتديه، لكن هذه هي الحياة، هناك في بعض الأحيان من يضغط، لكن إذا بلغ الضغط المستوى الجنائي فستتجه المعنية إلى المحكمة، وسأدافع عنها آنذاك. بالطريقة نفسها، عندما تفرض إيران على المرأة إما ارتداء الحجاب وإما السجن، فهذا طبعا تجاوز. لا يجب فرض لباس بسبب إيديولوجيا كيفما كانت.
سبق لمدير الكتابة الخاصة للملك، منير الماجيدي، أن رفع دعوى ضدك في القضاء الفرنسي، ألا تظن أنك وجهت اتهامات دون دليل؟
لقد أسقط القضاء الفرنسي الدعوى وبرأني، وهذا خير دليل على أنني لم أخطئ، والقضاء الفرنسي مستقل. لم أفترِ على الماجيدي، كنت قد قمت بعمل استقصائي مازال موجودا على الأنترنت إذا أراد القراء الاطلاع عليه، وكانت فيه اتهامات مبنية على أدلة جمعتها، وتحريات قمت بها، ووثائق اطلعت عليها، ومصادر تحدثت معها… قمت بعملي الصحافي الاستقصائي، فاتُّهمت بالتشهير، وربحت في محكمة مستقلة في باريس… ولم يستأنف الماجيدي الحكم. كل هذا يدل على أن ما كتبته كان صائبا.
كنت ومازلت من مناصري الدارجة كتابة واستعمالا، وقد أثير أخيرا هذا النقاش كثيرا، لماذا لم نسمع رأيك؟
عندما كتبت أن الدارجة هي اللغة الوطنية للمغاربة، كان ذلك في سنة 2002، لم يكن هناك من يتحدث عن هذا الأمر. الآن بعد مرور حوالي عشرين سنة، لاحظوا أن لوحات الإشهار في الشارع، والرسائل الصوتية في الهواتف، حتى بعض نشرات الأخبار في الراديو… كل هذا صار بالدارجة. مازالت بعض المعاقل التي لم تتغير، ومن ضمنها الأخبار بالتلفزيون وكذلك التعليم يستعمل الفصحى. وأحد مشاكل التعليم هو أنه مبني على ثنائية اللغة. إن المنطلق الذي يقول إن لغة التلميذ هي العربية الفصحى منطلق غير سليم، فالأطفال حين يدخلون المدرسة فهم يدخلون بلغتهم التي هي الدارجة، ويعتبر فهمم اللغة العربية الفصحى أمرا بديهيا. لا، لا ليس الأمر كذلك، إنهم لا يفهمونها. ليس هناك مشكل في تعليم العربية الفصحى أو أي لغة، لكن يجب تلقينها بالدارجة. إنه منطلق سكيزوفريني أن تعتبر العربية الفصحى هي اللغة الأم للمغاربة. الفصحى ليست اللغة الأم لأي بلد عربي، لأن كل بلد لديه لغته الدارجة.
سيكون علي ترجمة حوارك من الدارجة إلى الفصحى؟
وعلاش؟ لو تركتيه بالدارجة أفضل، وسيفهمني الناس أكثر. لماذا كانت «نيشان» ناجحة؟ لأننا كنا نكتب بالدارجة (أصلا اسمها «نيشان»)، وكنا نستعمل عبارات دارجة، والعناوين تقريبا كلها بالدارجة. في متن المقالات لم يكن كل شيء مكتوبا بالدارجة، فقط لأن الناس غير معتادين على ذلك، لكن بين السنة الأولى والرابعة ازدادت نسبة الدارجة، لأن القراء بدؤوا يتعودون على ذلك. أنا شخصيا عندما كنت أكتب الافتتاحيات وأعيد قراءة ما كتبت، أقرأ الفصحى بسرعة، لكن عندما أصل إلى الاقتباسات بالدارجة أشعر بأن قراءتي تصير بطيئة وأتهجى شيئا ما. لماذا؟ لأن عيناي لم تعتاداها بعد. نحن تربينا على الانفصام، نتحدث لغة ونكتب أخرى. لكن مع مرور الوقت لم أعد أتهجى، أصبحت أقرأ بالسرعة نفسها، وبعض الافتتاحيات صارت فيها الدارجة أكثر من الفصحى. كنت أجد لذة في كتابة الدارجة، لأنني كنت أعبر عن أفكاري وذاتي بأريحية أكثر مما لو كتبت المقال بالفصحى.
(مقاطعة) ربما لأنك فرانكفوني؟
لا، أبدا. أجد الأريحية في الدارجة أكثر من الفرنسية، لأني أفكر بالدارجة. الدارجة هي لغتي الأم، أما الفرنسية فتعلمتها، والفصحى كذلك تعلمتها. في تفكيري لست فرانكفونيا بل دارجوفون، ومثل باقي الناس، حين أرى الظلم أقول «واك واك آعباد الله»، كيف سأقولها بالفرنسية؟ «oh mon dieu»؟ (يضحك) كل ما هو مبني على العواطف والشعور، الانفعال، الفرح، الحزن، الغضب… كل هذا «يخرج» تلقائيا بالدارجة، لأنني مغربي وتربيت في هذا البلد. أنا أستعمل الفرنسية حينما أريد استعمال مفاهيم معقدة، sophistiqués. في العربية الفصحى يلزمني مجهود أكبر، لكن حتى هي تليق للمفاهيم sophistiqués.
نعود إلى اعتقالك في الجزائر، هل صحيح أنه عندما كنت تُسَلَّم من جهاز إلى آخر كان يجري إخضاعك لفحص طبي؟
نعم، هذا صحيح.
لماذا؟
هذه مسطرة يعتمدها الجزائريون.
هل بسبب مخافة ادعاء التعذيب؟
تماما، مخافة ادعاء التعذيب. وهكذا، إذا ضربني أحدهم، سيتبرأ الآخر ويقول لسنا نحن من ضربه. وهذا إجراء جيد، أتمنى أن يطبقه المغرب كذلك.
هل تعتقد أنه يمكن من تحديد المسؤولية؟
هذا هو مبتغاه، تحديد المسؤولية. أتمنى أن يطبق المغرب هذا الإجراء يوما، فهو لا يندرج ضمن منظومة حقوق الإنسان، لكن يبدو لي أنه إجراء معقول.
هل جرى التعامل معك بحساسية لأنك مغربي؟
لا، هذا إجراء يقومون به دائما، سألت محاميا هناك وأكد لي ذلك. وقبل إطلاق سراحي، أخذوني في الثانية صباحا إلى المستشفى أولا.
هل اعتقالك كان بسبب «هيومن رايتس ووتش»؟
لم يتهموني بأي شيء، لا أعرف السبب حتى اليوم. سألوني عما أفعله بالجزائر، فقلت إنني مراقب حقوقي.
وكيف نجوت منهم؟
لم «أنج»، بل طردوني في آخر المطاف (يضحك).
هل استنطقوك باعتبارك مغربيا أم أمريكيا؟
تحدثوا معي بصفتي مغربيا، وقد فوجئوا عندما أدليت بجواز سفري الأمريكي. أظن أنهم لم يكونوا ينتظرون ذلك.
عندما كنت تقع في أزمات، غالبا ما كان يتدخل بعض أصدقائك لحل هذه المشاكل؟
(مقاطعا) لم تكن هناك تدخلات بل كانت مساعٍ حميدة تجاه مشتكين. فمثلا، كانت السيدة حليمة عسالي، وهي نائبة برلمانية للحركة الشعبية، قد رفعت دعوى ضد «تيل كيل»، وكان هذا من حقها طبعا إذا شعرت بإهانة، لكن الحكم بمليون درهم ضدنا كان سابقة. كان يُحكم في تهم القذف آنذاك بعشرة آلاف درهم أو خمسة عشر ألف درهم غرامة، وفجأة… «ميات مليون»؟ مرة أخرى أقول إنني لا أجادل في أحقية أي مواطن في أن يلجأ إلى القضاء إذا شعر بأنه تعرض للإهانة، لكن قيمة الغرامة كانت تدل أنه جرى استعمال هذه المحاكمة لإسكات صحيفة. فكانت هناك مساعٍ حميدة من حزبها ومقربين لن أذكر أسماءهم لأنني لم أستأذنهم، توسطوا بالتي هي أحسن لكي تتراجع السيدة عسالي عن الدعوى، وهذا ما فعلته. هذا الأمر كان ناجعا في البداية، ربما لأنه كان هناك تعطش وحنين إلى الصحافة المستقلة. لكن، في السنوات الأخيرة، صارت المواجهات مباشرة مع الدولة وليس عبر أشخاص. حين قمنا باستطلاع رأي حول الملك، الدولة هي التي منعتنا وأمرت بإتلاف مائة ألف نسخة. كذلك الشيء نفسه حين كان عنوان غلاف «نيشان» هو: «فين غادي بينا خويا». حينما تصير في مواجهة مباشرة مع الدولة ويجري إحراق مائة ألف نسخة، لا يبقى للمساعي الحميدة من دور.