يعُجّ العالم بتغييرات بنيوية كبرى، مع نهاية الأحادية القطبية، وصعود نجم الصين، وعودة الدب الروسي، ومعالم أزمة خفية داخل الاتحاد الأوروبي. ويعرف حوض البحر الأبيض المتوسط توترات تهدد الأمن والاستقرار في منطقة حساسة، تتداخل فيها العوامل الإثنية والحضارية، وثقل التاريخ ومخلفاته، سواء في ليبيا أو مع التوتر القائم بين تركيا واليونان ذي الأبعاد المتعددة والمتداخلة، مثلما يعرف العالم العربي تغُيِّرات جذرية تمَس سُلم الأولويات، وطبيعة العلاقات مع الدول غير العربية في الشرق الأوسط، والنظرة إليها، سواء مع إيران أو تركيا أو إسرائيل.
كلها تغييرات كبرى لها تأثير مباشر وغير مباشر على البلاد المغاربية.. فهل ستظل الدول المغاربية في دور المتفرج لِما يحدث؟ وهل ستستمر في إدارة الظهر لبعضها بعضا، أم أنها ستنتقل إلى دور فاعل؟ فهي تشكل مجتمعةً قوة يُعتدّ بها من شأنها أن تُسمِع صوتها، لكن الوضع الحالي لا يؤهلها لأن تكون فاعلة، ويجعلها تتأثر بما يجري أكثر من أن تؤثر في مسار الأحداث. ما تزال المنطقة المغاربية، رغم فُرقتها، والأزمة الاقتصادية التي تنزل بثقلها عليها، تحمل بذور الأمل، فرغم الجفاء بين الرباط والجزائر، يتم التعاطي غالبا في العلاقة بين البلدين برؤية عقلانية، وهو ما أشار إليه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، في الحوار الذي أدلى به لـ»فرانس 24» في يوليو المنصرم، من أنه لا تؤثر الحملات الإعلامية الموسمية على الوشائج بين البلدين. وتلتقي الدول المغاربية حول القضايا الاستراتيجية التي من شأنها تهديد الأمن والاستقرار في حوض البحر الأبيض المتوسط، أو في الساحل.
فالدول المغاربية تقول الشيء ذاته في الملف الليبي، ولكن بلغة مختلفة، وبتعبير مغاير، وزمن مختلف. تلتقي حول الحل الدبلوماسي، ورفض الخيار العسكري، ومنع تسليح الأطراف المتصارعة، وتقول بوحدة ليبيا، واحترام خيارات الشعب الليبي، والشرعية الدولية، ورفض التدخلات الدولية. ليس هناك اختلاف جوهري ما بين الرباط والجزائر حيال الملف الليبي.
في الوقت ذاته تلتقي الدول المغاربية، في رؤيتها للقضية الفلسطينية حول حل الدولتين، والشرعية الدولية. وقد تكون هناك اختلافات في ما يخص العلاقات مع إسرائيل لدى بعض الحكومات، ولكن تسود على المستوى الشعبي، الرؤية ذاتها في ما يخص القضية الفلسطينية، من بنغازي إلى نواكشوط. أما في ما يخص التوتر القائم بين تركيا واليونان، المدعومة من قِبل فرنسا، فمن شأنه أن يجعل الدول المغاربية، بنسب متفاوتة، في وضع حرج، بالنظر إلى ما يربطها مع فرنسا من علاقات تاريخية واقتصادية ومصالح، أو بالنظر للعلاقات الوجدانية التي تربط تركيا والبلدان المغاربية، إذ تحظى تركيا مغاربيا على المستوى الشعبي بتعاطف كبير، رغم الحذر الذي قد يسود على المستوى الرسمي بالنسبة لبعض الحكومات حيال تركيا بضغط من فرنسا. معطيات جديدة تملي على الدول المغاربية مقاربات جديدة. لقد أثرت المتغيرات الدولية، سلبا وإيجابا، على العلاقات المغاربية، كانت الدول المغاربية مسرحا للتقاطب شرق – غرب إبّان الحرب الباردة، وعرفت تقاربا عقب سقوط حائط برلين، والتأم، في أعقاب القمة العربية في يوليو 1988 في الجزائر، لقاء جانبي لزعماء الدول المغاربية في منتجع زرالدة، كان نواة للاتحاد المغاربي. واستطاع كل من المرحوم الحسن الثاني والمرحوم الشاذلي بن جديد، أن يقلبا المعادلة في العلاقات المغربية الجزائرية، بوضع ملف الصحراء جانبا، وهو ما هيأ لعقد القمة المغاربية في مراكش في فبراير 1989، واستقبال المرحوم الحسن الثاني لقياديين في البوليساريو في مارس من السنة ذاتها، في مراكش، وتمخض عن هذه الدينامية الجديدة، لقاء بين خالد نزار الرجل القوي الجزائري حينها، ووزير الخارجية سيد أحمد غزالي، بزعيم البوليساريو المرحوم محمد عبد العزيز، في أفق تسوية مع المغرب.
بدأت فعلا دينامية إيجابية تأثرت بالسياق الدولي الجديد، وحتى العربي الواعد حينها، وقد غيرت الانتفاضة وأطفال الحجارة الرؤية العالمية للقضية الفلسطينية، وقرار المجلس الوطني الفلسطيني التاسع عشر المنعقد في الجزائر، وتغييره لميثاق منظمة التحرير وقبوله ضمنيا بدولة إسرائيل، وتصريح الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات الشهير في المعهد العربي، من أن ميثاق المنظمة أصبح متجاوزا، أو كما نطقه بالفرنسية caduque، ولكن الدينامية تلك، لم تصمد لتغييرات دولية جديدة، ومنها تداعيات أزمة الخليج، بعد غزو صدام للكويت، وتأثير ذلك في المنطقة المغاربية. تغير المشهد السياسي في الجزائر خاصة، وتغير معه سُلم الأولويات. ولعل من الأشياء غير الموفقة في الرباط، ما كان صدر حينها عن المرحوم الحسن الثاني في حديث جانبي مع الصحافي الفرنسي من أصول جزائرية جان دانييل، تسرب إلى مجلة «جون أفريك» من أنه يلقي بصنارته في المياه الجزائرية، وسواء لديه اقتنصت الشاذلي، أم جبهة الإنقاذ، وهو تسريب أساء للعلاقة بين البلدين. وبعث الملك الحسن الثاني حينها مستشاره رضا كديرة إلى الجزائر لامتصاص التوتر، ولكن شيئا انكسر حينها، ولم يلتئم. كانت الجزائر حبلى بتغيرات عميقة، وتعرضت ليبيا لحصار جراء قضية لوكربي، وتغير سُلم الأولويات بالنسبة للدول المغاربية.
ليس الغاية هي جرد الأحداث، مما هو معروف، ولكن للتدليل على أن العلاقات المغاربية لم تكن بمعزل عن التغييرات الكبرى، إن سلبا وإن إيجابا. التغيرات الكبرى الحالية تضع الدول المغاربية أمام تحد وجودي. الوضع الحالي لا يخدم أي بلد، والمراهنة على الزمن من شأنه تأبيد الوضع الحالي وتفاقمه. في خضم الجفاء بين المغرب والجزائر، سبق للملك محمد السادس أن نادي بحوار شامل بين البلدين في نوفمبر 2018، حول القضايا العالقة، من دون أفكار مسبقة، وسبق للرئيس الجزائري في حواره مع «فرانس 24» أن ألمح للعلاقات الوطيدة بين الشعبين، وعن الرؤية العقلانية في تدبير الخلاف. وتظل كل من المبادرة المغربية وتصريح الرئيس الجزائري تبون، رصيدا من أجل كسر الجليد بين البلدين، في سياق جديد يطرح تحديات جمّة.
الوحدة المغاربية لم تعد تخضع لاعتبارات اقتصادية وحدها، بل استراتيجية، فليس هناك إطار أمثل لحل القضية الليبية غير الإطار المغاربي، والتطورات التي عرفتها بعض دول الخليج، في تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، ونفض اليد عمليا من القضية الفلسطينية، يجعل الدول المغاربية العمق الاستراتيجي للعالم العربي، بل يمكن الزعم أن الدول المغاربية، خاصة تلك التي ترتبط بعلاقات تاريخية مع تركيا، يمكن أن تكون أداة لتقارب ما بين باريس وأنقرة. التاريخ مثلما يقال لا يمرر الصحون كل مرة، ما قد يبعث أملا في الفلسطينيين ليس بلاغات الإدانة في تونس والجزائر والرباط ضد التطبيع، أو القول إن الشعوب المغاربية مع القضية الفلسطينية ظالمة أو مظلومة، ولكن بإرادة تكسر الجمود القائم على مستوى البلدان المغاربية. الرهان اليوم أكبر من «النيف» أو المنافسة بين غريمين، بل إنه وجودي.