يعيش المجتمع المغربي بين الحين والآخر على إيقاع ظواهر إعلامية تبرز المستوى البائس لما يتم استهلاكه في شبكات التواصل الاجتماعي، ونوعية معينة من الصحافة، وعندما تقع أحداث ذات رمزية كبيرة لا يتم الانتباه إليها بالشكل الكافي مثل تبرع سيدتين بمبالغ مالية مهمة لدعم التعليم.
ولا ينفرد المجتمع المغربي بالاهتمام بالفقاعات الإعلامية لوحده، فهي ظاهرة متجذرة في الكثير من المجتمعات، وإن كان بشكل متفاوت، وكلما كان المجتمع غارقا في آفات اجتماعية مقلقة، بل خطيرة انتعشت هذه الفقاعات الإعلامية، وقد يكون الأمر مخططا له من طرف «الأخ الأكبر» بتعبير جورج أورويل، حتى يتم تشتيت انتباه الشعب عن القضايا المصيرية، أو بعبارة أخرى حتى لا يحاسب الشعب من ارتكب.
ويواجه المغرب مشاكل أصبحت بنيوية كفشل قطاعات رئيسية مثل الصحة والتعليم والشغل، وهو ما جعل المغاربة ضمن الشعوب التي ترغب في مغادرة وطنها بحثا عن مستقبل أحسن، وتكفي رؤية قوارب الهجرة بشكل يومي من شمال المغرب نحو جنوب إسبانيا لتكوين فكرة عن «هاجس الهجرة» لدى الشباب المغربي، ورغم كل هذه المشاكل، تعمل جهات على الترويج لظواهر مجتمعية غريبة تدخل ضمن ما يمكن تصنيفه النسخة الرخيصة من «ظاهرة إعلام كارادشيان الأمريكية». وسط سوق المزايدات الرقمية في المغرب، تُقدم هذه الأيام سيدة اسمها نجية نظير، على تخصيص مبلغ من المال يصل إلى مليون و350 ألف دولار لبناء ثانوية في منطقة قروية في إقليم سطات وسط البلاد. وفسرت عملها الخيري هذا بالمساهمة في الرقي بالتعليم في منطقة مهمشة. وقبل هذه السيدة الفاضلة، أقدمت سيدة أخرى سنة 2003 وهي فاطمة المدرسي في مدينة وجدة شرق البلاد، على منح 700 ألف دولار للمساهمة في بناء مدرسة عليا للتجارة، ساهمت في تربية أفواج من المتخصصين في التجارة. هذا التصرف النبيل، يحيل المغاربة إلى التاريخ عندما أسست فاطمة الفهري جامعة فاس منذ قرون طويلة لتكون من أوائل الجامعات في العالم.
في دولة غربية قد يكون الخبر عاديا، وإذا أخذنا الولايات المتحدة، سنجد الأثرياء، سواء الكبار أو المتوسطين أو الصغار يتبرعون بجزء من ثرواتهم لصالح المؤسسات الخيرية وأساسا التعليمية. ويتفاجأ المرء عندما يزور جامعات كبرى مثل برينستون وهارفارد وييل وكامبريدج، ويقف على اللائحة الطويلة للمتبرعين لهذه المؤسسات، انطلاقا من مئة دولار الى مئات الملايين من الدولارات. ويعد بيل غيتس صاحب نظام ويندوز أو شركة ميكروسوفت، على رأس قائمة المتبرعين بالأموال لصالح المؤسسات الخيرية والتعليمية. عموما، أن تقدم امرأتان على التبرع لصالح بناء مؤسسات تعليمية في المغرب، فهذا أمر يستحق التنويه المطلق لأسباب متعددة نجملها في:
*في المقام الأول، يصدر التبرع من مغربيتين عاديتين لا تمتلكان أموالا طائلة حيث لم يتم ذكرهما في مجلة «فوربس»، بل لم يسبق للصحافة الحديث عنهما قبل عملية التبرع الخيري.
*في المقام الثاني، تعتبر عملية التبرع درسا بليغا للكثير من الأثرياء المغاربة، سواء رجال أعمال عاديين أو الذين يجمعون بين الثروة والسلطة، ويبقى همهم الرئيسي هو الرفع من الأرباح بطريقة شرعية أو غير شرعية، على حساب هموم الشعب، فكم من مغربي جاء ذكره في مجلة «فوربس» للأغنياء في إفريقيا أو العالم العربي أو حتى العالم من دون التساؤل عن طريقة جمعه للمال والاحتكار الذي يمارسه في البلاد، ما جعل الأسعار تتجاوز دولا أوروبية، ولكن بأجور من القارة السمراء.
*في المقام الثالث، عملية التبرع تأتي في وقت يشهد فيه قطاع التعليم أكبر عمليات الاختلاس المالي في تاريخ المغرب بعد الاستقلال، حيث جرى نهب مبالغ كبيرة ضمن ما يعرف بـ»المخطط الاستعجالي لإنقاذ التعليم» وانتهى بفشل كبير لغياب رؤية مقنعة، وبسبب الاختلاسات التي رافقته، ولا يجد المراقبون أي جواب لماذا يتماطل القضاء حتى الآن في تسريع التحقيق ومحاكمة المتورطين. ولهذا يبقى التبرع تعبيرا عن وعي حقيقي لكل من نجية وفاطمة.
*في المقام الرابع، هذه المرة لم يتم التبرع لبناء مسجد، بحكم غلبة العامل الديني إبان فعل الخير في المغرب، بل استهدف التبرع قطاعا يعتبر الرافعة الحقيقية للأمم نحو الرقي الحقيقي، لأن أي نهضة أساسها الحقيقي العلم والتربية، وليس العثور على الموارد الطبيعية مثل النفط، فقد تقدمت أوروبا بسبب النهضة العلمية والصناعية وليس بفضل البترول والغاز، وهو ما حصل مع دول أخرى ويحصل الآن مع الصين.
بعد قرار نجية نظير ومعرفة تبرع فاطمة المدرسي السابق، بدأ ناشطون يحاولون تعميم النقاش حول ضرورة مشاركة الأغنياء في تمويل قطاعات حيوية مثل التعليم والصحة وتخصيص قروض بيضاء لصالح الشباب لبدء مشاريع اقتصادية. لكن هذا النقاش لا يعرف انتشارا واسعا بسبب ضعف الوعي المجتمعي بمثل هذه المبادرات، لكن الكل يعرب عن رغبته في قيام أغنياء المغرب، لاسيما الواردة أسماؤهم في مجلة «فوربس» تقليد كل من السيدتين الفاضلتين نجية نظير وفاطمة المدرسي.