حقيقة قضية منير الرماش بين تستر وتورط ضباط من الشرطة والمخابرات وشجاعة الإعلام

صورة مركبة لمقال العلم والرماش والجنرال لعنيكري

يمر الإنسان في حياته بأحداث تدفعه أحيانًا إلى طيّ الصفحة والمضيّ قدمًا، لكن يحدث أن يستغل البعض هذه الأحداث ويلوح بها – سواء بدافع شخصي أو ضمن أجندة مبرمجة – لتحويلها إلى أدوات للاستهداف العدائي، في غياب تام للمسؤولية لاسيما ممن أخطأ التاريخ في اختيارهم لبعض المناصب.

أتحدث هنا عن أكبر فضيحة مخدرات عرفها المغرب، والتي كنتُ، أنا حسين مجدوبي، من فجّرها خلال صيف سنة 2003. حينها، انكشفت خيوط تورط مسؤولين كبار في أجهزة الشرطة والمخابرات والقضاء، ليس فقط في حماية المهربين، بل في حالات مثيرة للريبة وصلت مستوى التجسس لصالح إسبانيا. تعرضت لجريمة حقيقية من طرف مسؤولين في الاستخبارات والشرطة، ورغم ذلك اعتبرت ذلك من باب ضريبة النضال التي تحصل في الانتقال الديمقراطي المفترى عليه، وقدمت دعوى للقضاء المغربي وخسرتها وقبلت بالحكم، وفضلت النسيان بدل اللجوء الى القضاء الأوروبي. لكن طابور الأشرار الذي في  الداخل أعاد هذا الموضوع الذيب كلفني الكثير ومنها دراستي في الدكتوراه وعملي، وهذا يدفعنا الى حكاية ما تعرضت له من مؤامرة دنيئة لمن يفترض أنهم حماة الدار وليس فقط الجدار ولا هم بحماة ولا شيء. هذا الطابور من الأشرار الذي جعل من صحافة التشهير إرهابا لا يقل عن إرهاب أبشع الجماعات الإرهابية مثل داعش.

تساؤلات عديدة طُرحت في ذلك الوقت، ولا تزال قائمة إلى اليوم من ملف الرماش الى ملف إسكوبار الصحراء. وبسبب طبيعة الاعتداء الذي تعرضت له، تقدمت بدعوى قضائية ضد الجنرال العنيكري، ومدير المخابرات المدنية حينها أحمد حراري، ورئيس الفرقة الوطنية الراحل عبد الحق الخيام الى القضاء المغربي سنة 2004. أما باقي المتورطين، فلم أمتلك حينها أدلة دامغة ضدهم، رغم الحديث عن مؤشرات على استفادة بعض عائلاتهم من إقامات فاخرة في مدن أوروبية وأمريكية . لكن الزمن كفيل بفضحهم وفضح خيانتهم، ونتساءل: هل يمكن للدولة المغربية فتح تحقيق في الأخبار التي تروج حول امتلاك مسؤولين إقامات في الخارج مستعملين أبنائهم كستار؟

وعلاقة بالدعوى، فقد أبدى الأمير هشام  استعداده لتقديم الشهادة  لصالحي أمام المحكمة، ولكن المحكمة رفضت بحجة أن الأمراء لا يدلون بشهادتهم، كان موقف  الأمير هشام في غاية النبل، ولا ننسى أنه رغم صفة الأمير فهو عرضة لصحافة التشهير منذ سنة 2000 دون أن يتحرك القضاء المغربي ولا الشرطة، هذه الأخيرة التي تتحرك لمجرد تدوينة تمس موظفا بسيطا، فهل لها تعليمات بعدم التحرك في حالة الأمير وباقي المواطنين الذين ينتقدون الفساد؟ إذا لم يضمن القضاء حرمة أمراء من العائلة الملكية، فهل سيضمن حرمة المواطنين وهل سيقنع الصحراويين أنصار تقرير المصير بقبول الحكم الذاتي؟ هذه هي التصرفات، التي بدون وعي أو عن عمد، التي تصب في صالح الجزائر وجبهة البوليساريو من طرف من يدعون الوطنية.

 

الأحداث

في بداية غشت 2003، عدت من إسبانيا إلى مدينة تطوان، فوجدت الرأي العام منشغلاً بأخبار عن مواجهات مسلحة وقعت أمام الإقامة الملكية في المضيق (رينكون). تعددت الروايات حول ما جرى؛ فهناك من ضخّم الحدث وادعى أن الاشتباكات وقعت بين عناصر من الحرس الملكي، وهناك من أصر على أنها مواجهات بين عصابات تهريب المخدرات.

أكثر من ضابط أمن أكد لي الرواية الثانية، أي أن المواجهات كانت بين عصابات المخدرات، بل وأخبرني أحدهم بالحرف: “بعثنا أكثر من تقرير إلى رؤسائنا، ولم يتحرك أحد.”

تساءلت حينها، كيف يُعقل أن تقع اشتباكات بالسلاح الناري على مقربة من الإقامة الملكية، ولا تحرّك أي جهة أمنية رسمية ساكناً؟ كيف يمكن تفسير هذا الصمت خصوصاً أن المغرب لم يكن قد خرج بعد من صدمة تفجيرات 16 مايو الإرهابية في الدار البيضاء، والتي وقعت قبل أقل من ثلاثة أشهر فقط؟ أين كانت الأجهزة الأمنية والاستخباراتية؟ ولماذا التزمت وزارة الداخلية الصمت وهي التي كانت وقتها تنسق بين جميع الأجهزة الأمنية؟

بعد استجماع معطيات كافية، نشرت يوم  الثامن من غشت 2003 مقالاً في الصفحة الأولى لجريدة العلم، أي بعد مرور أسبوع كامل على وقوع المواجهات، وكان عنوان المقال  “مواجهات مسلحة بين مهربي المخدرات وتساؤلات عن تبرئة المتابعين سنة 1996”. لم يكن هذا أول مقال لي حول قضايا المخدرات؛ فقد سبقه عدد من المقالات التي كشفت كيف كان بعض مهربي المخدرات يشترون البراءة بملايين الدراهم في محاكم تطوان. ومن طرائف ما حصل في تطوان، أن في يوم من الأيام في أواسط التسعينات، حل بتطوان مدير أمن القصور لدى الحسن الثاني،  المديوري ووضح بوسام ملكي صدر رئيس المغرب التطواني رشيد التمسماني، وقال أمام الحاضرين “هذا رجل حقيقي وهكذا يجب أن يكون الرجال”، سنة بعد ذلك، هرب التمسماني لأنه كان من أكبر تجار المخدرات: 

صورة المقال الذي كشف مؤامرة الصمت 

 

كما سلطت الضوء على شخصية بارزة في هذا الملف، ويتعلق الأمر بـ”ح. أ”، المسؤول الاستخباراتي الأول في تطوان خلال التسعينات وحتى عام 1996، والذي ثبتت علاقاته بجهاز استخبارات أجنبي، إذ فرّ إلى الجنوب الإسباني واستقر هناك. ما كان صادماً هو أن بعض الجهات داخل الاستخبارات المغربية تستّرت عليه رغم التقارير الواضحة التي توصلت بها تورطه في حماية المهربين والعمالة، ولم تُصدر في حقه حتى مذكرة اعتقال، بل وصل الأمر إلى أن الجنرال العنيكري دافع عنه ووفّر له الحماية وسمح له بالعودة للمغرب  ثم غادره بعدما لم يعد العنيكري مديرا للمخابرات.

بعد نشر المقال في العلم، وجّه الملك أوامره بفتح تحقيق، لتبدأ حملة اعتقالات طالت ولاة أمن وضباط شرطة ودرك، بالإضافة إلى عناصر من أجهزة الاستخبارات ومسؤولين في القضاء. وفي ندوة صحفية، صرّح وزير العدل آنذاك، محمد بوزوبع، أن التحقيق فُتح بناءً على المقال المنشور في الجريدة. هل كذب مسؤولون على الملك في هذا الملف حتى علم بالأحداث عبر العلم، نعم، كذب المسؤولون عليه.

واصلتُ في تلك الفترة نشر مقالات أخرى فضحت خيوط التهريب وتورط مسؤولين كبار، وأسفر التحقيق عن اعتقال والي أمن تطوان وسلفه، ورئيس الضابطة القضائية، ورئيس فرقة مكافحة المخدرات، إضافة إلى توقيف واعتقال 11 قاضياً، وعدد من المسؤولين في القوات المساعدة وأجهزة أخرى. كما شمل الاعتقال أحد عناصر المخابرات المدنية في تطوان، في واقعة بدت أشبه بتصفية حسابات، إذ لم يكن متورطاً فعلياً، وكل ما نُسب إليه هو أنه شرب الجعة مع أحد أو اثنين من المهربين. لكن العنيكري، الذي كان يشك في كونه مصدر التسريبات، زجّ به في الملف ظلماً. وقد أصدرت المحكمة الإدارية لاحقاً حكماً ببراءته وإعادته إلى عمله، لكني لا أعلم إن كان الحكم قد نُفّذ فعلاً أم قوبل بالرفض. وجرى على ما يبدو اعتقال ضابط آخر من طنجة كان متورطا.

ضمن سلسلة المقالات التي نشرتها حول ملف المخدرات، أثار أحد العناوين صدمة قوية لدى بعض الجهات “المسؤولة”، حيث جاء بعنوان: “هل تكشف فضيحة المخدرات بتطوان عن عمليات تجسس جديدة على المغرب؟”. كما جاء في المقالات خبراً آخر لا يقل خطورة: “من هي الجهة التي حذفت مذكرة اعتقال منير الرماش من نظام مراقبة الحدود، مما سمح لأحد المطلوبين بمغادرة البلاد والعودة دون اعتقاله؟”

علمت لاحقاً أن عملية حذف المذكرة تعود إلى فترة سابقة، عندما تم توقيف منير الرماش في معبر باب سبتة. وكان ضابط من المخابرات وآخر من شرطة الحدود يستعدان لنقله إلى تطوان، لكن تلقيا مكالمة هاتفية من مكتب الجنرال العنيكري عبر مكتب تطوان تأمر بالإفراج عنه فوراً. وتم تنفيذ الأمر دون تردد. والمثير أن والي الأمن في تطوان وقتها “ش د” هو الذي تولى إخفاء منير الرماش بعدما بدأت الاعتقالات بعد نشر مقالي يوم 8 غشت، وجرى اعتقال والي الأمن هذا. تخيلوا، قضاة ونواب الملك وضباط مخابرات وأجهزة أخرى كانوا متورطين.

في ليلة 22 غشت، كنت أتناول العشاء في إقامة الصديق الأمير مولاي هشام بالمضيق، وبعد مغادرتي، لاحظت سيارة تترصدني، لكنني لم أهتم  بها كثيرا، فقد أصبحت مثل هذه التتبعّات أمراً معتاداً بالنسبة لي. غير أن ما لم أكن أعلمه هو أن الشرطة كانت في تلك الليلة تبحث عني بشكل محموم، بينما كنت أقضي الليلة بالمصادفة في منزل أصهاري. في اليوم التالي، تأكدت أن من حاصر منزل والدي لم تكن عصابة إجرامية، بل الشرطة نفسها، رغم أن تصرفاتها تلك الليلة بدت خارج القانون، وهو ما وثقته في مقالي المنشور في أسبوعية الأيام، في عدد خاص صدر لاحقاً. 

رافقت المحامي الحبيب حجي إلى مقر الشرطة في تطوان، وهناك أبلغني والي الأمن، السيد العلوة، أن الفرقة الوطنية ترغب في الاستماع إليّ. في عدد 7 سبتمبر 2003 من أسبوعية  الأيام، سردتُ بالتفصيل وقائع الاستنطاق والتهمة الموجهة إلي، وكل الملابسات التي أحاطت بتلك الليلة المثيرة للريبة.

أستعرض هنا أبرز ما وقع خلال واحدة من أكثر المحطات التي لا تُنسى في حياتي. تم نقلي من تطوان إلى مقر الفرقة الوطنية في الدار البيضاء على متن سيارة رباعية الدفع بيضاء. طُلب مني الانتظار لدى الوصول، علماً أنني لم أكن مكبل اليدين وكنت أتمتع بحرية الحركة الكاملة. وفجأة، تلقى أحد أفراد الشرطة مكالمة هاتفية، ثم قال: “علينا الذهاب الآن”، وكنا حينها في زنقة موازية لمقر الفرقة الوطنية.

ما حدث بعد ذلك كان مفاجئاً: وجدت الجنرال العنيكري واقفاً أمام مقر الفرقة، ينتظرني بابتسامة وقال: “قلت لك إنك ستقع في الفخ”، فأجبته بهدوء: “الزمن يدور”.

وقبل هذا الاعتقال بستة أشهر، جمعتني بالجنرال العنيكري جلسة غداء بطلب وإصرار منه، كشف خلالها عن أمور حساسة للغاية لا يمكنني الإفصاح عنها الآن بسبب غيابه وانتقاله الى دار البقاء لأنه لا يستطيع تكذيب أو تأكيد هذه المعطيات، وسأدع الزمن يتكفل بكشفها، وإن كانت بعض التفاصيل معروفة لدى عدد من الأصدقاء بل وربما عند مكتب التنصت للمخابرات لأنني تحدث فيها مع الأصدقاء هاتفيا، ولا ننسى أن العنيكري كان هو الجنرال صاحب التصريح الشهير لسارة دانييل من مجلة نوفيل أوبسيرفاتور سنة 2000 بقوله أنه   “إذا تقدم الاسلاميون سياسيا سنخرج الدبابات الى الشارع”، وهو تصريح دال على رؤيته الأمنية الغارقة في الوطنية الى مفهوم التطرف. المهم أن الجنرال طلب مني بعض الأمور، كان أبرزها أن أقطع علاقتي بالأمير مولاي هشام، وهو ما رفضته بشكل قاطع. تحدثت عن هذه المعطيات سابقاً في حوار مع مجلة “لوجورنال” سنة 2005. في تلك الجلسة قال لي “لا تنسى نحن مجرد أدوات في يد النظام الحاكم، نحن نخدم بإخلاص من في السلطة حتى تستمر الدولة، هذا هو دورنا، ولا نتحمل القرارات السياسية”. عموما، قسم التنصت لدى الاستخبارات يتوفر على أرشيف صوتي لمكالماتي مع بعض الأصدقاء ومنهم الأمير حول مضمون تلك الجلسة.

حتى اليوم، لا أعرف ما إذا كان ما تعرضت له لاحقاً مجرد انتقام من الجنرال بسبب رفضي خاصة بما يتعلق بالأمير هشام، أم خوفاً من أن أكشف ما أسر به إليّ، أم بسبب ما دار خلال جلسة التحقيق حول احتمال تورطه في حماية مهربي المخدرات، أو ربما خشية من انكشاف شبكة تجسس.

المقال الذي تسبب في رعب الجنيرال لعنيكري 

من بين ما طلبه مني أيضاً أن أتجنب الكتابة عن موضوع المخدرات، بحجة أن ذلك يسيء لصورة البلاد، خصوصاً في ظل التوتر مع إسبانيا بعد أزمة جزيرة “ليلى”، ومع الجزائر كذلك. كما انتقدني بسبب مقالي حول مسؤول استخباراتي كبير فرّ إلى جنوب إسبانيا، والذي تبين لاحقاً أنه كان يعمل لصالح جهات إسبانية. وقد استند البرلمان المغربي على مقالي المنشور في  جريدة “العلم” سنة 2000 خلال طرح حزب الاستقلال اسئلة حول هذا الموضوع.

أما بخصوص الاستنطاق الذي دام يومين بمقر الفرقة الوطنية، وكان يشرف عليه الراحل عبد الحق الخيام، فقد كانت التهم المطروحة غريبة ومثيرة للسخرية وكانت تهمة واحدة  عبثية إلى حد كبير وتبرز  المؤامرة من طرف الذين لا يمتلكون ضميرا. حيث تم اتهامي بأن مهرباً يُدعى هشام حربول منحني عشرة آلاف درهم مقابل عدم ذكر اسمه في مقالي جريدة العلم المنشور يوم 8 غشت حول الموادهات. كما سُئلت سؤالا غبيا وماكرا وهو:  لماذا تأخرت في تغطية المواجهات التي حدثت آنذاك؟

لإثبات التهمة، أحضرت الفرقة شخصين معتقلين للمواجهة (يمكن الرجوع لمحضر المواجهة عند قاضي التحقيق). التهمة الموجهة كانت: عدم التبليغ عن جريمة مقابل رشوة. والواقع أنني بلغت عن الجريمة في وقت صمت فيه بل تآمر عدد من مسؤولي الأجهزة الأمنية وتسترهم على هذه الجريمة.

ورغم أن القانون ينص على معاملة تحترم الكرامة الإنسانية، دون إكراه أو تعنيف، فقد كان واضحاً أن الشخصين اللذين جرى استقدامهما كانا في حالة مزرية وتعرضا لضرب مبرح. الأول ويدعى “ن.ع” قال إنه سمع في مقهى بتطوان أن مهرباً منح صحفياً مليون سنتيم مقابل عدم الكتابة عنه، دون أن يذكر أي أسماء. أما الثاني، فقال إن الشاهد الأول اتصل به هاتفياً وأخبره بذلك.

خلال فترة الاستنطاق التي دامت يومين، وقعت مشادة كلامية حادة بيني وبين الراحل عبد الحق الخيام. كنت أرد على أسئلته بتساؤلات منطقية: “كيف تطالبني بكتابة مقال عن المواجهات في الوقت الذي لم أكن فيه حتى داخل المغرب حينها؟ وهل يمكنك كضابط مسؤول أن تشرح لي كيف تمكنت شبكات التهريب من خوض مواجهة بالرصاص أمام إقامة ملكية دون أن تتحرك أجهزة الدولة؟ وكيف يُعقل أن جميع الأجهزة الأمنية والاستخباراتية ظلت ساكنة حتى كتبتُ مقالاً عن الواقعة والآن تحاسبني على هوية المتواجهين؟” ما هم الأهم” مواجهات بالسلاح أمام الإقامة الملكية أم هوية المتوادهين؟

بلغ بي الغضب ذروته فقلت له: “نحن لا نعيش في دولة فاشلة أو مناطق خارجة عن السيطرة كما في أفغانستان أو كولومبيا حيث تسيطر العصابات على زراعة الأفيون والكوكا. نحن في دولة تُحكم قبضتها على أراضيها، فقل لي: من يشرف على زراعة القنب الهندي هنا؟ ومن يتغاضى عن تجارتها للخارج؟” ثم أضفت: “المخابرات تتنصت على الجميع، فلماذا لا تفرج عن التسجيلات الخاصة بليلة المواجهات أمام القصر”.

هذا الحديث أدى إلى حالة من التوتر داخل الغرفة، فهددني أحد الضباط قائلاً إن مثل هذا الكلام يستوجب “التعليق”، فرددت عليه بحدة، مما دفع الخيام إلى إنهاء الجلسة فجأة. بعدها اصطحبني في جولة داخل المقر، وبدأ بيننا نقاش غريب حول من أخبرني باعتقال المهرب “النيني” ومهربين آخرين.

ما أثار استغرابي هو أنني نُقلت إلى مقر الفرقة الوطنية لأجل تهمة تافهة من صنع الأجهزة الأمنية والاستخباراتية نفسها: رشوة” بمليون سنتيم، وكان الملف مكشوف الفبركة. الأدهى أن عدد الضباط الذين تداولوا على استنطاق يبلغ 17 ضابطاً، يتناوبون على التحقيق كأننا في قضية دولة، لا في قضية ملفقة.

أعادوني إلى تطوان، وهناك رفض الوكيل العام استنطاقي، ليتم إحالتي مباشرة على قاضي التحقيق، الذي قرر الإفراج عني دون شروط، ووجدت أن محضنر الاستنطاق  عند الشرطة قد تم تزويره. واكتشفت لاحقاً أنني ممنوع من السفر دون أي قرار قضائي، . وعندما راجعت قاضي التحقيق، منحني شهادة خطية تؤكد أنه لم يصدر أي أمر بإغلاق الحدود في وجهي. كان قرار المنع تعسفياً، اتخذته جهات في الشرطة والمخابرات دون سند قانوني، وهو تصرف لا يوصف إلا بالجبن من طرف مسؤولين متورطين في قضايا التهريب.

مما خفف من هذه الضربة الغادرة هو تعاطف الرأي العام المغربي معي بشكل كبير وبعض الاعتصامات في تطوان. لا أنسى موقف بعض الأصدقاء ومنهم الموقف المشرف للأمير  هشام، ووقفة الرجل الحقيقي للمرحوم عبد الجبار السحيمي ثم الموقف الرائع للأستاذ محمد العربي المساري الذي كتب عني مقالا في جريدة الشرق الأوسط بعنوان “ما حدث للحسين مجدوبي يسيء للحكومة أكثر من الإساءة للصحفي”، وكذلك وقفة الشهامة لعدد من المحامين الذين دافعوا عني تطوعا وعلى رأسهم  لحبيب حجي وعبد اللطيف  قنجاع والنقيب محمد الخراز ومصطفى أولاد منصور والمرحوم العابد الفاسي الفهري.

 

 

 

 

المقال التضامني للمرحوم محمد العربي المساري

لكن المفاجأة الحقيقية حدثت يوم 9 سبتمبر 2003 أمام قاضي التحقيق. ففي تلك الجلسة، طلب الشاهدان اللذان كانت الشرطة قد استعملتهما ضدي، توفير الحماية، واستجاب القاضي لطلبهما.

الشاهد الأول قال بوضوح: “لم يسبق لي أن قرأت أي مقال لحسين مجدوبي، ولا أعرفه شخصياً، بل إن الشرطة في تطوان ثم في الدار البيضاء عذبتني ولقنتني الرواية التي كان يجب أن أرددها ضده”، ثم كشف عن أسماء الضباط الذين مارسوا عليه التعذيب. أما الشاهد الثاني، فكانت شهادته أكثر خطورة، إذ صرّح أمام القاضي: “هذا الصحفي لا أعرفه. لقد تم اعتقالي من طرف العنيكري في تمارة، وهددني بأنني سأُتهم بحيازة أسلحة وسأواجه حُكماً بـ30 سنة إذا لم أتهم حسين مجدوبي بما يريدونه”. وأضاف: “يا سيدي القاضي، هذا الصحفي كتب مقالاً يتساءل فيه كيف تم حذف اسم منير الرماش من نظام الشرطة في المعابر الحدودية، ما مكّنه من مغادرة البلاد والعودة دون أن يُعتقل، رغم وجود مذكرة توقيف ضده”. وتابع قائلاً: “لقد جمع المهربون ملياراً و600 مليون سنتيم، وتم تسليمها إلى الجنرال العنيكري على دفعتين في محطة وقود وسط الرباط، مقابل حذف اسم الرماش من قاعدة البيانات”.

كانت تصريحات الشاهدين أمام قاضي التحقيق صادمة، وأثّرت بعمق في مجريات الجلسة. بدا القاضي حائراً، غير قادر على استيعاب حجم الاتهامات الموجهة، فيما أصرّ فريق الدفاع — الذي وردت أسماؤهم في المحضر — على تدوين كل شيء دون استثناء. وبالفعل، تم تحرير محضر رسمي تضمّن اتهامات مخففة موجهة إلى جهاز المخابرات، وهو المحضر الذي نُشر لاحقاً. كما تم إعداد محضر ثانٍ، أكثر تفصيلاً وخطورة، جرى توجيهه إلى جهة أخرى لم يُكشف عنها، وقد يكون هذا الملف توقف في محطة ما مثل مؤامرة الصمت يوم فاتح غشت 2003 التي فضحناها.

وبعد الانتهاء من التحقيق الشامل في هذا الملف المعقّد، كنت أنا الشخص الوحيد من بين جميع من تم التحقيق معهم الذي لم تتم إحالته على المحاكمة، بل صدر قرار بعدم المتابعة. والحقيقة أنني كنت أفضل أن أُحال إلى المحاكمة، حتى أتمكن من فضح التورط الفاضح  لعدد من ضباط الشرطة والمخابرات وبعض عناصر القضاء في هذا الملف.

انتظرت إلى حين انتهاء جلسات المحاكمة في ما بات يُعرف بملف “منير الرماش”، رغم أن التسمية الأدق لهذا الملف كان ينبغي أن تكون: “ملف الشرطة، المخابرات، والمخدرات”. وعقب ذلك، تقدّمت بدعوى قضائية أمام المحكمة الإدارية، موجهاً الاتهام إلى كبار مسؤولي الأجهزة الأمنية، وعلى رأسهم: مدير الأمن الوطني، الجنرال حميدو العنيكري؛ مدير المخابرات المدنية آنذاك، أحمد حراري؛ رئيس الفرقة الوطنية، عبد الحق الخيام؛ إضافة إلى الدولة المغربية ممثلة في الوزير الأول، ووزير الداخلية. وكان من بين الشهود الذين أعربوا عن استعدادهم لتقديم الشهادة الأمير هشام.

الآن نصل إلى التساؤلات الجوهرية المتعلقة بتورط محتمل لبعض ضباط الشرطة والمخابرات، وما يمكن وصفه بمؤامرة الصمت، مدفوعة بالمصالح وغياب الضمير.

أولاً، اندلعت مواجهات مسلحة ليلة نهاية يوليوز وفجر فاتح غشت 2003، تم خلالها تبادل إطلاق النار، وقد وقعت هذه الأحداث الخطيرة على مقربة من الإقامة الملكية. المثير للدهشة أن مختلف الأجهزة الأمنية والاستخباراتية التزمت الصمت، رغم أن هذه المواجهات جاءت بعد شهرين ونصف فقط من تفجيرات 16 مايو الإرهابية في الدار البيضاء التي خلفت مقتل 45 شخصا بمن فيهم الإرهابيين، ما يثير شبهات قوية حول احتمال وجود خيانة أو تواطؤ من مسؤولين أمنيين رفيعي المستوى. من هو الشخص المسؤول الذي يتوصل بالتقارير ويجب أن يقدمها الى الملك ولم يفعل؟ هل وقعت الخيانة من طرف جميع الأجهزة أم أن في محطة ما من إرسال التقارير الى الملك لم تتم إحالة التقرير وتقارير أخرى؟

ثانياً، من المعروف أن هواتف العاملين في محيط الإقامة الملكية تخضع للتنصت الأمني، وبالتالي فإن تبادل المعلومات بين الضباط بشأن المواجهة كان يجب أن يلفت انتباه مصالح الاستخبارات المكلفة بالتنصت، ويستوجب إعداد تقرير فوري حول الحادث. لماذا لم يحدث ذلك؟

ثالثاً، التحقيق لم يُفتح إلا بعد تسعة أيام من وقوع المواجهة النارية، وتحديداً بعد نشر مقالي. ماذا كان سيحدث لو لم أكتب المقال؟ هل كانت الحقيقة ستظل مدفونة؟ نعم كانت الحقيقة ستظل مدفونة بحكم مؤامرة الصمت، وهذا ما مان يبحث عنه الفاسدون.

رابعاً، عندما طرحت سؤالاً حول من ألغى مذكرة اعتقال منير الرماش، وعندما تحدثت عن كيفية تجسس إسبانيا على المغرب عبر شبكات المخدرات، بدأت أيادٍ من داخل الدولة تتحرك ضدي، في ما بدا أنه محاولة لإسكات صوتي. لماذا هذا الانزعاج؟ ولماذا أثيرت حملة ضدي عندما تناولت امتلاك بعض المسؤولين الأمنيين الإقليميين لإقامات سياحية في ماربيا، وطرحت تساؤلات حول ارتباط ذلك بشبكات المخدرات والتجسس؟ونقفز في الزمن ونتسلء: هل يمتلك الآن مسؤولون ممن يتم وصفهم “بالسامين” إقامات في اسبانيا وفي أوروبا والولايات المتحدة؟ وإذا كان ذلك بالفعل، كيف سيؤثر على الأمن القومي للمغرب؟

خامسا، لماذا تم إقبار المحضر الرسمي المتضمن للمعطيات الدقيقة خلال  جلسة المواجهة عند قاضي التحقيق يوم 9 سبتمبر 2003؟ من هي الجهة التي احتفظت  بهذا المحضر بدل اتباع المسطرة المعمول بها، هل هي الجهة نفسها التي احتفظت بتقارير الشرطة ليلة 31 يوليوز فاتخ غشت 2003؟

سادسا، عندما تسلم المغرب من اسبانيا المهرب هشام حربول لماذا لم يتم فتح ملفي، ومن هي الجهة التي طلبت سنة 2003 من هشام حربول الاختفاء الكلي، وحكم بالإعدام ليتحول بقدرة قادر الى سنوات فقط؟

سابعا، حاول الراحل عبد الحق الخيام بشتى الوسائل أن يعرف المصدر الذي كشف لي عن اعتقال الطيب الوزاني الملقب بالنيني، واستوعبت أهمية السؤال على ضوء هروب النيني من السجن في المغرب بطريقة سهلة للغاية، ثم ترويج أنه قد يكون لقي حتفه. شيء ما هنا لا يستقيم نهائيا، لا يمكن لمن هرب أن تتم تصفيته، الزمن سيكشف أشياء غريبة.

وأخيرا، هل تعرضت للانتقام بسبب علاقتي مع الأمير هشام أو خوفا من الكشف عن مضمون اللقاء مع العنيكري أو بسبب وجود يد تشبه ذلك المتآمر منذ الحماية وحتى الخمسينات  ابن غبريط تحرك الأشياء من وراء الستار؟

التاريخ سيكشف المتورطين في تجارة المخدرات مهما طال الزمن وأن عصابات مثل منير الرماش ما هي إلا واجهة بينما توجد بدون شك عصابات أكبر لأن حجم تصدير المخدرات كبير جدا، ويمكن لصحافة البحث والتقصي التساؤل: هل يمتلك نافذون في السلطة إقامات في مدن غربية؟ لا ننسى أن إدريس البصري عندما هرب من المغرب عاش في قصر في باريس، كما أن هشام المنظري الذي كان الناهي والآمر في القصر منذ منتصف التسعينات امتلك شققا فاخرة في أوروبا. مرتب الموظف السامي في شتى القطاعات معروف، فهل يمكنه اقتناء منزلا بملايين اليورو؟ لنتذكر حالة البصري.

محضر المواجهة عند قاضي التحقيق الذي يؤكد فيه المعتقلان تعرضهما للتهديد من طرف المخابرات لتوريط الصحفي حسين مجدوبي

 

 

بعد مرور ثلاث سنوات على حادثة الرماش، يتفاجأ الرأي العام بأن الملك أمر بتحقيق مفصل حول تورط مدير أمن القصور “ع إ” في تجارة المخدرات. ذلك المسؤول الأمني كان معروفا عند ساكنة طنجة ومهربي المخدرات بأنه متورط في تجارة الممنوعات. وعليه، من أشر  على ترقيته الى مدير حرس القصور؟ هل غاب عن مختلف الأجهزة الأمنية والاستخباراتية نشاط هذا المسؤول؟ تقول الرواية الرسمية أنه تم القبض على المهرب شريف بين الويدان واعترف بتورط هذا المسؤول، غير أن الحقيقة هو أن القصر توصل بتنبيه من دولة أوروبية بأن مدير أمن القصور جاء ذكره في عدد من التقارير الأوروبية التي تتولى محاربة المخدرات.

رفعت الدعوى القضائية ضد المسؤولين، لكن القضاء المغربي أغمض عينه على أكبر جريمة تتعلق بالمسؤولية القانونية لمن أدى القسم وهي:  لماذا تسترت الأجهزة الأمنية والاستخباراتية طيلة أسبوع على المواجهات المسلحة بالقرب من الإقامة الملكية حتى كتبت عنها. الغريب أنه بعد هذا الحادث، أصبحنا نسمع بمهربين وصلوا الى برلمان المغرب. كم من شخص تشوب حوله الشبهات دخل البرلمان المغربي وأصبح نائبا؟

حكم القضاء المغربي الذي لم يحاكم من تستر على المواجهات ولا استجوب الشخصين اللذين اتهما الجنرال لعنيكري

 

ويمر الزمن، وتبقى أشياء ثابتة، وهكذا، وبينما كان الرأي العام المغربي يعيش نهاية 2023  ما يعرف ب فضيحة إسكوبار الصحراء بتورط سعيد الناصيري وعبد النبي البعيوي والمواطن المالي وآخرين في تجارة المخدرات، تذكرت أن نشطاء نددوا بالبعيوي منذ سنة 2015، كما كتب عنه نشطاء اليوتوب والفايسبوك منذ سنوات، ولم تحدث الاعتقالات إلا بعدما كتبت مجلة جون أفريك عن هذه العصابة. وتساءلت مجددا،  هذه المجموعة تنشط منذ سنوات، أين كانت التقارير الأمنية والاستخباراتية حولها؟ أم لم ينتبه أي مسؤول لنشاطها طيلة هذه السنوات؟  مثلا النائب البرلماني أفتاتي من العدالة والتنمية اتهم عبد النبوي بعيوي رئيس جهة الشرق وجدة بأنه “اسكوبار المخدرات”، أدان القضاء أفتاتي وليس البعيوي. ألم يكن هذا المعطى كافيا للفت انتباه الشرطة والمخابرات لتتبع نشاط البعيوي وخاصة مداخيله المالية؟ ولماذا سقط حتى نهاية 2023، تسع سنوات تقريبا من الاتهامات التي وجهها أفتاتي؟

يوم 3 يناير 2024، نشرت جريدة برلمان في موقعها الرقمي مقالا يتهم صاحب هذا المقال حسين مجدوبي الذي فجر فضيحة 2003 أو ما يعرف بفضيحة منير الرماش بأنه يحاول توجيه  الاتهامات نحو تورط مفترض لمستشار ملكي في عصابة إسكوبار  الصحراء. تعجبت من إقحام اسمي، وتساءلت: كيف عرفت هذه الجريدة بهذه المعطيات رغم وجودي في بريطانيا ولم تتساءل عن من تستر عن عصابة اسكوبار الصحراء طيلة سنوات؟ أو من فشل أمنيا واستخباراتيا في التوصل إلى الكشف عن وجود هذه العصابة؟  لم تكشف برلمان عن هوية المستشار الملكي، ولكن لماذا قالت مستشارا وليس وزيرا أو مسؤولا أمنيا كبيرا. كل ما فعلته أنها خلقت شبهات حول مستشاري الملك ولا أحد يعرف هوية المعني بالأمر، ولكن إذا كان متورطا ستظهر الحقيقة مع مرور الوقت. وتمتلك جريدة برلمان الجواب حول هوية هذا المستشار المفترض أنه “المستهدف” لأنها هي التي خلقت حوله شبهات وكتبت عنه، هل حبا في المستشار أم لغاية في نفس يعقوب مثل تخويف الصحفيين لعدم الكتابة للتغطية عن شخصية أخرى. تصرف برلمان كان غبيا، فبمقالها هذا، دون شك جعلت أجهزة مكافحة المخدرات في أوروبا تتساءل هل يوجد عبد العزيز إيزو جديد في المحيط الملكي. من سرب لبرلمان مؤامرة مفترضة ضد مستشار ملكي؟

مقال برلمان الذي تسبب في شبهات حول مستشار ملكي

 

في الدول الديمقراطية، من تحوم حوله الشبهات من موظفين سامين، ينشر أملاكه وخاصة ينفي هل يمتلك شقق في عواصم غربية.

 

فمن يا ترى  المستشار  الملكي المفترض الذي خلقت حوله جريدة برلمان الشبهات بقولها أنه مستهدف دون باقي المسؤولين، الجواب عند هيئة تحرير برلمان التي تدعي القرب من صناع القرار الأمني، فلتخبر الرأي العام المغربي بدل لعبة الكلمات المتقاطعة. ونتساءل: هل لجأت هية التحرير لبرلمان الى هذه الحيلة للضغط في ملف شائك وحساس لعرقلة التحرير، وذلك بهدف التخويف لردع الصحافة عن التحقيق في هذا الملف، أم أنها تعمدت ذلك تصفية للحسابات لصالح جهة أخرى ولو على حساب المحيط الملكي   ؟

 

وأخيرا، ملف الرماش كان مؤامرة دنيئة من طرف من لا ضمير لهم، الذين لا يهمهم موت الشباب المغربي بالمخدرات بقدر ما يهمهم جمع الأموال!

 

Sign In

Reset Your Password