غادرت القوات الأمريكية أفغانستان بعد عشرين سنة من التواجد العسكري في هذا البلد الآسيوي. ويعد قرار واشنطن مفاجئا للكثير من المتتبعين، بينما هو في العمق انتصار للتيار الأمريكي الذي يدعو للتخلي عن الحروب الثانوية في العالم لمواجهة الصين مستقبلا. وهذا التطور العسكري-السياسي يجر إلى سؤال عريض: هل ستدخل الولايات المتحدة حروبا مستقبلا على شاكلة أفغانستان والفيتنام والعراق أم ستتخلى نهائيا عن هذا النوع من الحروب؟
وعموما، تاريخ العلاقات الدولية للولايات المتحدة منذ نهاية القرن التاسع عشر هو تاريخ حروب بامتياز، من مواجهة إسبانيا في كوبا والفلبين إلى الانسحاب الحالي من أفغانستان، تخللتها حروب ضخمة مثل الحرب العالمية الأولى ثم الثانية ثم حروب قائمة على الدفاع عن العقيدة الليبرالية مثل حرب كوريا في الخمسينات ولاحقا الفيتنام في الستينات، ويضاف إلى هذا الحروب الجيوسياسية الغامضة مثل الحرب الثانية ضد العراق سنة 2003 وقبلها غزو أفغانستان سنة 2001 والتي تشهد حاليا الحلقة الأخيرة بالانسحاب من هذا البلد الآسيوي. وثقافة الحروب في دولة كبرى تنخرط في حرب تلو الأخرى مختلفة عن رؤية الدولة الصغيرة التي تشهد حربا واحدة طيلة عقود متباعدة، وبالتالي، يبقى مفهوم الهزيمة والانتصار نسبيا طالما أن القوة العسكرية للولايات المتحدة لم تتأثر ولم يحدث غزو للتراب الأمريكي.
ويمكن تفسير الانسحاب الأمريكي من أفغانستان بالهزيمة العسكرية البطيئة، وفق وصف جريدة «الواشنطن بوست» في مقال تحليلي لها الجمعة من الأسبوع الجاري، حيث عجزت واشنطن طيلة عقدين من الزمن عن تحقيق أجندتها وهي القضاء على حركة طالبان وتحويل أفغانستان إلى دولة ديمقراطية. في المقابل، الانسحاب الأمريكي ما هو إلا جزء من تصور وسط الطبقة السياسية والعسكرية الأمريكية كان قد فقد قوته وعاد خلال السنوات الأخيرة إلى صناعة القرار الاستراتيجي.
وتعد رئاسة دونالد ترامب للولايات المتحدة سنة 2017 مفصلية، حيث دعمه جزء من الإستبلشمنت الأمريكي الذي يرغب في الانسحاب من الحروب التي تنهك الولايات المتحدة وتضر بصورتها خارجيا وداخليا من أجل الحفاظ على الريادة العالمية. وكان ترامب قد بنى حملته الانتخابية على ثلاثة عناصر رئيسية وهي وقف هجرة اللاتينيين، ثم مواجهة الصين وإعادة تموقع القوات العسكرية بالانسحاب أساسا من مناطق النزاعات التي شاركت فيها بل بما في ذلك التقليل من الدفاع عن أوروبا في إطار منظمة الحلف الأطلسي، وطالب الدول الأوروبية مسؤولية الدفاع عن نفسها بالرفع من النسبة المخصصة للتسلح في الميزانية العامة. وكان ترامب يترجم خريطة طريق وضعها هذا الاستبشلمنت، وهو ما يفسر توقيع أكثر من 300 جنرال أمريكي متقاعد على بيان يدعون فيه الشعب الأمريكي للتصويت على ترامب في انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر 2016. ولا يمكن اعتبار الانسحاب من أفغانستان قرارا للرئيس الجديد جو بايدن بل استمرارا لقرار إدارة ترامب. في هذا الصدد، يحافظ بايدن على سياسة ترامب في مواجهة الصين بل أصبح متشددا أكثر، كما يحافظ على سياسة ترامب في التقليل من التواجد العسكري في العالم والتركيز على الداخل الأمريكي والتوجه نحو عسكرة المحيط الهادي لمواجهة الصين، وهي استراتيجية بدأها الرئيس الأسبق باراك أوباما ونفذها ترامب والآن يطورها بايدن.
الحروب الثانوية
ويرفض التيار المشار وسط الاستبلشمنت استمرار انخراط الولايات المتحدة في مختلف الحروب وخاصة الثانوية منها لأسباب بعضها ثانوي والآخر رئيسي وهي: في المقام الأول، الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة باستثناء حرب العراق سنة 1991 كانت ثانوية للغاية وأنهكت المجتمع الأمريكي وتخلق انقسامات كبيرة لاسيما الأعطاب التي يعاني منها الجنود لاحقا. والخسائر الاجتماعية تفوق بكثير الخسائر العسكرية. وكان أغلب الجنود المشاركين في الحروب مثل كوريا والفيتنام يندمجون بسهولة في المجتمع، ويحدث الآن العكس مع حربي العراق وأفغانستان.
في المقام الثاني وهو عامل ثانوي، تضررت صورة الولايات المتحدة في الخارج بشكل كبير بسبب هذه الحروب الثانوية، حيث تحولت في أعين جزء كبير من الرأي العام العالمي إلى مصدر الخطر الذي يهدد السلم العالمي، وهي مفارقة كبيرة بحكم فرضية حمل واشنطن لمشعل حقوق الإنسان والسلام والصداقة. وإذا كانت في الماضي إبان الحرب الباردة تعتبر زعيمة العالم الحر، فقد تحولت إلى عنوان الخطر. ويبقى هذا العامل ثانويا بحكم أن الولايات المتحدة تعطي الأولوية لمصالحها الاستراتيجية ثم تفكر في صورتها، وهي الدولة التي تدرك أنها لن تتعرض لإدانة دولية ولم تعان من مقاطعة بل العالم يحتاج لها ابتداء من العملة الدولار إلى البوينغ والأدوية مثل فايزر مع جائحة كورونا.
في المقام الثالث، خضعت معظم الحروب وخاصة الأخيرة لمخططات جيوسياسية غامضة. في هذا الصدد، سعى أنصار الحرب ضد أفغانستان سنة 2001 ثم العراق سنة 2003 وأغلبهم من المحافظين الجدد بزعامة جورج بوش الابن إلى محاولة إعادة انتشار القوات الأمريكية في العالم ومحاصرة دول مثل روسيا وإيران. وفشلت هذه الخطة بحكم المقاومة التي تعرضت لها في العراق وأفغانستان. ويطالب هذا التيار بالعمل على التمركز العسكري الرامي إلى محاصرة الصين وروسيا وليس دولا ثانوية لا تملك دورا اقتصاديا ولا عسكريا في العالم.
في المقام الرابع، بينما تتورط الولايات المتحدة في حروب ثانوية، تعمل دول أخرى كبرى وأساسا الصين وروسيا على تعزيز وحدتهما القومية والعسكرية. فقد استثمر البنتاغون الكثير في الحروب، ولكنه لم يستمر في البحث العلمي العسكري، وهو ما جعل الولايات المتحدة تفقد التفوق العسكري الذي حافظت عليه منذ عقود في بعض قطاعات التسلح لصالح الصين وروسيا وخاصة الأخيرة. وكتب أكثر من محلل سياسي في مجلات مثل «مليتاري واتش» أو «ديفانس وان» من ضمن الأمثلة التي تعزز هذه الأطروحة أنه في الوقت الذي كان البنتاغون منهمكا في الحرب ضد أفغانستان طورت روسيا أنظمة الدفاع الجوي مثل إس 400 والآن إس 500 على حساب باتريوت.
الانسحاب الأمريكي من أفغانستان يخضع لقراءات متعددة، قد يكون هزيمة كما تذهب غالبية التحاليل، لكنه قرار ضمن مسلسل التواجد العسكري الأمريكي في الخارج يخضع لتصورات مرتبطة بالتيار الذي ينجح في فرض تصوره في مرحلة من مراحل التاريخ الأمريكي، أي المواجهة بين أنصار التواجد العسكري المكثف وفي كل المناطق وبين التواجد النوعي جدا والانسحاب من النزاعات. منذ نهاية الحرب الباردة، هيمن تيار من الإستبلشمنت الأمريكي الذي دافع عن إعادة الانتشار ولو عبر حروب ثانوية مثل أفغانستان بينما في الوقت الراهن تراجع لصالح من يمتلك رؤية بعيدة المدى أي الانسحاب استعدادا لحرب مختلفة مع الصين.
وعلى ضوء هذا، يبقى الراجح هو أن حربا من نوعية أفغانستان التي تستند إلى الانتشار الكلاسيكي للنفوذ الأمريكي قد تكون الأخيرة في الحروب الأمريكية بسبب التغيير الذي يطرأ على تنفيذ الحروب التي لن تحتاج إلى تواجد عسكري بشري مكثف، ثم رهان واشنطن على الحفاظ على جيشها بدون انشغالات ثانوية ومحاولة دفع الدول الكبرى للعب دور «دركي مشترك» لحل النزاعات الدولية حتى لا تفقد المبادرة والريادة أمام الصين مستقبلا.