زعيم الثورة الريفية محمد ابن عبد الكريم الخطابي وفي اليسار قبره في القاهرة
تحل اليوم 6 فبراير ذكرى مرور نصف قرن على رحيل محمد ابن عبد الكريم الخطابي في الأراضي المصرية، اسم يستحق فصلا كاملا في تاريخ المغرب، لكن ذكرى الرجل تستمر عرضة للتهميش كما يستمر رفاته بعيدا عن التراب الذي ولد فيه وشهد بطولاته. وقد حان الوقت لإعادة الاعتبار الرسمي والشعبي لهذه الشخصية التاريخية الفذة.
وبدأ الشعب المغربي، بفضل الحريات التي ينتزعها بتضحيات جمة، استعادة حلقات مغيبة و مفقودة من ماضي الخطابي المشرق، ومنها حلقة الخطابي، تعمدت السلطة الرسمية طمس معالمها بغرض الإبقاء فقط على تاريخ رسمي يحتفي ب”ذاكرة المخزن” ويرسخ سلطتها ويصونها من أي منافسة. وقد بات واضحا أن هذا “المنطق السائد ” لم يعد يصمد أمام “منطق مقاوم” للهيمنة الرسمية في بناء تاريخ المغرب وتاريخ رجالته وشعبه، منطق يجلي من يشاء ويخفي من يشاء بغرض ضمان هيمنة السلطة الرسمية.
التحول الذي يعيشه المغرب بفضل الهبة الشعبية التي أثمرتها رياح الربيع العربي اللواقح،خصوصا على المستوى الشعبي، امتد لينسحب على وعيه بقيمه التاريخية والثقافية والحضارية، وبات في ظل الوسائل المعرفية والاتصالية المتاحة يعيد صياغة تاريخه من جديد، ويرفع الغشاوة عن أعين الناس ليقرأوا تاريخهم بسند جديد يضيئ ما كان يعتمه الحكي الرسمي للتاريخ المغربي الغني.
وسعى المخزن خلال العقود الماضية عبر توظيف مؤرخين هم حراس معبد الرواية التاريخية الرسمية الى اغتيال ما يشكله الخطابي في تاريخ البلاد، بالترويج لصور تلبسه لباس “مثير الفتن” و”الانفصالي” و”المتمرد”.
لقد كان محمد بن عبد الكريم الخطابي وليد الظروف التاريخية التي عاشها المغرب، واجه تآمر السلطة المخزنية مع الخارج، فقد باع السلطان عبد العزيز المغرب إشباعا لنزواته، ووقع السلطان عبد الحفيظ على وثيقة الاستعمار ضاربا بعرض الحائط قرونا من جهاد المغاربة في صد الغزو الأوروبي، بينما كان السلطان يوسف قد رفض التعاون مع الخطابي في تحرير البلاد. وهي الظروف التاريخية نفسها التي أنتجت السلطان الأزرق في الصحراء الذي كاد أن يقضي على السلالة العلوية سنة 1912 ووصلت سيطرته من قلب الصحراء الى مراكش قبل أم يتراجع نحو الجنوب، وهو فصل آخر مغيب من التاريخ الرسمي.
مر قرابة قرن كامل على ثورة محمد ابن عبد الكريم الخطابي وهذا يعني ثلاثة أجيال بيولوجية وستة أجيال سياسية، وهي فترة زمنية كافية لأخذ مسافة من أحداث الماضي. وقد حان الوقت لوضع الزعيم الريفي في إطاره التاريخي بعيدا عن التشنج والاحتقان والتوظيف السياسوي من هذه الجهة أو تلك.
ويتطلب من الدولة المغربية أن تبادر لرد الاعتبار التاريخي لهذه الشخصية التي سجلت أروع صفحات مواجهة الاستعمار الأوروبي. فالمؤرخون الإسبان يصنفون حروب الريف وخاصة معركة أنوال، أسوأ كارثة حربية تعرضت لها الجويش الإسبانية خلال القرون الأخيرة، وبصماتها تستمر حتى وقتنا الراهن لما ترتب عنها من تأثير سياسي و انقلابات في اسبانيا. ومعركة أنوال لا يمكن أن تكون أقل مرتبة من معارك تاريخية أخرى، فهي آخر معركة حربية انتصر فيها المغاربة بشكل لافت في مواجهة الأوروبيين بعد معركة وادي المخازن.
والى جانب الاعتراف الرسمي بالخطابي، حان الوقت أيضا للسعي الحثيث لإعادة رفات الزعيم الى منطقة الريف ليسكن رفاته التراب الذي دافع عنه لعقد كامل من الزمن وأسال دماء المغاربة لتحريره، وكلما جرى الإسراع في تحقيق ذلك كلما جرت المصالحة الحقيقة مع تاريخنا، عكس من يشرط إعادة رفاته باستقرار الديمقراطية، لأن الشعوب تحتضن ذكرى ورفات رجالاتها وزعمائها في أوقات الحرية وحتى في أوقات القهر.
رد العتبار التاريخي للخطابي واستعادة رفاته سيكون إنصافا لشخصية تاريخية مغربية، وإضاءة حقبة نيرة مغيبة في تاريخ هذا البلد. وسيقود هذا الفعل أيضا إلى ترسيخ تقليد جديد يتمثل في بناء تاريخ “مغرب الجميع” بحس مشترك ومنصف.