جون بولتون دون كيشوت دي لامنشا في السياسة الأمريكية/ د. حسين مجدوبي

كاريكاتير حول جون بولتون

شهد العالم منذ بداية السنة الجارية ثلاث حروب لكنها لم تتعد العالم الافتراضي وتحاليل الصحافة، وهي الحرب الأمريكية ضد كوريا الشمالية، وضد فنزويلا وأخيرا حرب واشنطن ضد إيران. ووسط كل هذه الضجة يبرز اسم مستشار الأمن القومي جون بولتون الذي تحول إلى دون كيشوت دي لامنشا في السياسة الأمريكية لمحاربته طواحين الهواء.

ومن أبرز المفارقات في تاريخ الحروب التي شاركت فيها الولايات المتحدة هو إنتاج الإدارة الحالية تحت رئاسة دونالد ترامب أكبر نسبة من الخطابات حول الحروب التي كانت تعتزم خوضها واستحضار التهديد بشن المعارك لكنها لم تخض أي حرب باستثناء المشاركة في قصف النظام السوري منذ سنتين على خلفية الاتهامات باستعماله الأسلحة الكيميائية ضد المعارضين.

ومن باب المقارنة، يعد ترامب مثلا أقل ميلا للحروب من كل الرؤساء السابقين وعلى رأسهم باراك أوباما صاحب جائزة نوبل للسلام وصاحب أعلى نسب من التصريحات حول السلام لكنه ساهم في هجمات متعددة في العراق وسوريا وأفغانستان، ولا يمكن مقارنة ترامب بالرئيس الجمهوري جورج بوش الابن الذي شن أكبر حرب أمريكية منذ حرب الفيتنام في الستينات والسبعينات.

عمليا، الإدارة الأمريكية الحالية تحت إشراف ترامب تنطلق من أسس قومية راديكالية ترمي إلى جعل أمريكا قوة عظمى وأساسا في الاقتصاد، أي المحافظة على الريادة وتعزيزها. ومن ضمن آليات تطبيق هذا الشعار إعادة النظر في مختلف الاتفاقيات الثنائية والدولية التي وقعها رؤساء أمريكيون سابقون وتعتقد هذه الإدارة أنها ذات انعكاسات سلبية على المصالح الحيوية الأمريكية. وتطبيقا لهذا المفهوم، فقد انسحبت واشنطن من اتفاقية المناخ التي وقعت عليها أغلبية دول العالم، وتعيد النظر في اتفاقية التجارة الحرة ومنها الامتيازات التي كان الرئيس بيل كلينتون قد منحها للصين في التسعينات بل وإعادة النظر في العلاقات التجارية مع أكبر شريكين كندا والمكسيك. وبطبيعة الحال إعادة النظر في الاتفاقية النووية التي وقعها المنتظم الدولي مع إيران لأنها تعتبرها خطيرة على المصالح الأمريكية مستقبلا بحكم أنها ستسمح لإيران إنتاج القنبلة النووية في صمت، ولهذا انسحبت منها واشنطن.

ولم يعهد المنتظم الدولي مواقف متشنجة من واشنطن، حيث يظهر الرئيس الأمريكي ترامب وكأنه يعطي الأوامر متجاوزا اللباقة في العلاقات الدولية غير عابئ بسيادة وصورة الدول الأخرى، ولعل من أبرز الأمثلة تصريحاته المستفزة حول السعودية قائلا “إذا سحبت واشنطن حمايتها ستسقط السعودية في يد غيرنا خلال أسبوعين”.

وفي ظل رفض دول أخرى لمقترحات ترامب تلجأ واشنطن إلى التهديد بالعقوبات التجارية والسياسية بل والتلويح بالحرب ضد الأصدقاء أو الأعداء. ووصلت هذه التهديدات العسكرية والعقوبات الاقتصادية ذروتها في ثلاثة ملفات رئيسية وهي كوريا الشمالية وفنزويلا ثم إيران، حتى يخيل للمتتبع من كثرة تصريحات البيت الأبيض بشأن الحرب أن المعارك على وشك الاندلاع إن لم تكن قد اندلعت.

ويتصدر مستشار الأمن القومي جون بولتون التصريحات الحربية بشكل شبه يومي وفي كل الملفات. ومن ضمن التعاليق الساخرة من بولتون في هذا الشأن ما كتبه أحد المعلقين في شبكات التواصل “لو كان بولتون شرطيا مكلفا بالمرور لهدد المخالفين بضربهم بالقاذفة الاستراتيجية ب 52 أو ف 35”. ويصدر بولتون تصريحات بالحرب، علما أنه لا يملك أي صلاحية إعطاء الأوامر حتى لأصغر جندي في القوات العسكرية الأمريكية، كما لا يمكنه، وفق القانون الأمريكي، الاطلاع الدقيق على المخططات العسكرية العميقة للبنتاغون باستثناء ما هو عمومي.

ويشكل بولتون مدرسة خاصة في الفكر السياسي الأمريكي، فهو من أشد المؤمنين بصراع الحضارات الذي أرسى أسسه المفكر سامويل هانتنغتون، كما يؤمن بخطورة عودة الحضارات الكبرى مثل الصين على مصالح الولايات المتحدة علاوة على موقف متوجس من الإسلام. ويحاول عبر كبريات مراكز التفكير الاستراتيجي التي يعتبر عضوا فيها أو معهد غاتستون الذي يديره نشر هذه الأفكار والنظريات وسط صناع القرار السياسي والعسكري. ومن خلال قراءة كتاب “الاستسلام ليس حلا” الصادر سنة 2007، يقدم بولتون رؤيته للأحداث العالمية وقتها ونظريته إلى المستقبل وتتلخص في “سياسة كوبوي”. ويحاول ترجمة نظرياته عسكريا هذه في الملفات الدولية الكبرى وهي:

كوريــا الشماليــة:

مباشرة بعد الحديث عن تعيينه مستشارا للأمن القومي الأمريكي، أقدم جون بولتون على كتابة مقال في جريدة “والت ستريت جورنال” عام 2018 يطالب فيه بشن حرب وقائية ضد نظام كوريا الشمالية، وأصر على هذا الموقف بعد تعيينه في المنصب خلال آذار/مارس 2018. ورد عليه كل من سكون ساغان وهو عالم نووي وآلان واينير وهو خبير في القانون الدولي في مقال في “نيويورك تايمز” بتاريخ 6 نيسان/أبريل 2018: “بولتون له فهم خاطئ للحرب الاستباقية وتصور استراتيجي خاطئ، يكفي ما حدث في حرب العراق”. وهناك شبه إجماع وسط الطبقة السياسية الأمريكية من بيت أبيض وكونغرس ومحللين أن مواقف بولتون أفشل القمم التي عقدها ترامب مع الرئيس الكوري الشمالي. ورغم التهديد بالحرب ضد كوريا الشمالية، لم يتجاوز الأمر التصريحات بينما يستمر النظام الشيوعي في سياسته التسليحية.

الأزمــة الفنزويليــة:

منذ اندلاع الأزمة في فنزويلا، لم يستبعد البيت الأبيض الحل العسكري بما في ذلك تصريحات الرئيس ترامب الذي قال “كل الحلول مطروحة” لكن بولتون تفنن في تهديد فنزويلا مرة بتحويلها إلى ما يشبه “بنما” عندما تدخلت القوات الأمريكية في هذا البلد، وأخرى بجعل الرئيس نيكولا مادورو مثل الرئيس الليبي معمر القذافي، أي الاغتيال. واستعاد بولتون نظرية “مونرو” لسنة 1822 التي تنص على اقتصار معالجة مشاكل القارة الأمريكية على الأمريكيين، لكنه اصطدم بسخرية العالم منه. وبينما ذهبت صحافة العالم لترقب بدء الهجوم الأمريكي على فنزويلا، كانت كل مخططات واشنطن تفشل وآخرها منذ ثلاثة أسابيع، ولم تصل هذه المخططات إلى الرهان العسكري بسبب صعوبة هذا الحل.

إيــــران:

غادرت حاملات الطائرات أبراهام لنكولن قاعدة نورفولك في فرجينيا الأطلسية في طريقها إلى الخليج العربي ثم لتنهي دورتها حول العالم في قاعدة سان دييغو بكاليفورنيا في الهادي، وهي عملة عادية للغاية، وكان حديث بولتون عن توجيهها ضد إيران كافيا لإشعال فتيل حرب افتراضية تغزو الآن الصحافة الدولية. والتواجد العسكري الأمريكي ليس بالجديد في الخليج العربي، فهناك قواعد ثنائية وقاعدة للأسطول الخامس في البحرين. بل ومن باب المقارنة، التواجد العسكري الحالي أقل مما كان عليه منذ سنة، ويكفي أن حاملة الطائرات ابراهام لنكولن لم تدخل مياه الخليج بعد بينما نظيرتها جون ستنيس كانت هناك خلال آذار/مارس الماضي. وكانت واشنطن قد دفعت بست حاملات طائرات خلال الحرب ضد العراق سنة 2003، الذي كان منهوكا عسكريا، والآن لديها حاملة طائرات واحدة في المنطقة وسفينتان حربيتان ضد قوة إقليمية مثل إيران. وهذا لا يستقيم والمنطق العسكري.

نعم، هناك نية لجون بولتون بإشعال فتيل الحرب في الشرق الأوسط، لكن الواقع العسكري والمنطق الجيوسياسي يجعلان الحرب مستحيلة، دون استبعاد مواجهات محدودة. وتبقى تصريحات بولتون حتى الآن بمثابة محاربة طواحين الهواء، لقد تحول بولتون إلى “دون كيشوت دي لامنشا في السياسة الأمريكية”.

Sign In

Reset Your Password