تقرير أكاديمي أمريكي حول مستقبل العلاقة بين القصر وجماعة العدل والإحسان

قيادة العدل والإحسان

صدر عن معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى تقرير جديد تحت عنوان: “جماعة العدل والإحسان، في قلب التحدي الإسلامي بالمغرب”.

يبلغ حجم التقرير زهاء 70 صفحة، وقد نشر باللغة الإنجليزية، وهو من إنجاز الباحثة فيش ساكتيفالVish Sakthivel، التي عاشت أكثر من سنتين في المغرب، وهي تتقن اللغة العربية وحاصلة على شهادة الماستر في السياسة العمومية من جامعة جورج تاون، تخصص العالم العربي، وتشتغل حاليا على الدكتوراه في كلية سان أنطوني التابعة لجامعة أكسفورد.

يتضمن التقرير في البداية خلاصة مقتضبة للسؤال الجوهري المطروح للبحث ومدى أهميته، ثم الجواب المقترح، على ضوء هواجس وأولويات السياسة الأمريكية، فيوصي الدبلوماسية بأن تشجع القصر علىالاجتهاد لاستيعاب العدل والإحسان ضمن الحقل السياسي الرسمي.ثم ينتقل إلى المقدمة، التي يليها فصلان وخاتمة.

تتناول المقدمة العواصف التي أصابت الإسلام السياسي في بلدان الربيع العربي، ثم ترسم ملامح المشهد السياسي المغربي وخاصة منذ 2011، قبل أن تذكر بالأسس الإيديولوجية للجماعة، والمسار الفكري لمؤسسها الشيخ عبد السلام ياسين، وموقعها داخل الحقل الديني بالمغرب والحركات الإسلامية الأخرى، ثم علاقتها بالمخزن.

أما الفصل الأول المخصص للتعريف بجماعة العدل والإحسان فقد تناول على التوالي المبادئ الفكرية الكبرى للجماعة وهيكلها التنظيمي، وأطروحتها في منهج التغيير والاقتصاد والسياسة الخارجية، ثم مسألة المرأة ومشاركتها، وسبل استيعاب الأعضاء الجدد، وخاصة تدبير القطاع الطلابي، ومقارنة خياراتها السياسية بالتيارات السياسية الأخرى وعلى الخصوص في مسألة المساهمة في الانتخابات. كما يتناول هذا الفصل مقاربة الجماعة لمفهوم الديمقراطية، ونوعية امتدادها خارج المغرب وأخيرا الربيع المغربي.

ثم تناول الفصل الثاني استشرافا لسيناريوهات أداء الجماعة في المستقبل المنظور، بعد وفاة مؤسسها عبد السلام ياسين وعلى ضوء متغيرات المخزن، بينما تضمنت الخاتمة مقترحات للإدارة الأمريكية في تعاملها مع الدولة المغربية في مجال تعاطي هذه الأخيرة مع الجماعة، حيث السؤال الجوهري هو: هل يجب على أمريكا تشجيع السلطة على إدماج الجماعة في الحقل السياسي الرسمي أم لا.

ونظرا لأهمية هذا السؤال، فإن هذا التلخيص سيحاول أن يضع بين يدي القارئ موجزا للفصل الثاني وللخاتمة، لعل ذلك يساعد من جهة على توضيح التصور الذي يحمله الباحث الأجنبي، والأمريكي بالضبط، عن جماعة العدل والإحسان والحقل السياسي المغربي على العموم، ويتلمس من جهة أخرى نموذجا من التقارير التي تتوصل بها الدبلوماسية الأمريكية من مراكز الدراسات (معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، له توجه محافظ)، والتي تلقي الضوء على نوعية وحدود الدور الأمريكي المحتمل في التأثير في رسم سياسة بلاد مثل المغرب.

سيناريوهات تطور أداء الجماعة:

على خلاف الجرائر، حيث سقط عشرات الآلاف من القتلى، لم تباشر الدولة المغربية منذ عهد الحسن الثاني القمع الواسع النطاق إزاء خصومها الإسلاميين، بل سعت إلى إضعافهم عبر المزج بين القمع المخفف من جهة، والاستقطاب والإغراء من جهة أخرى، وهي السياسة التي انتهجها المخزن بنجاح مع كل أنواع المعارضة التي شكلت له تهديدا وجوديا مثل الاشتراكيين والشيوعيين. وقد أثبتت التجربة التاريخية كيف أن حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، وبعد عقود من الشد والجذب مع الملكية، رضخا في الأخير وشاركا في الحكومات فتحولا إلى كائنات سياسية ضعيفة وأصبحت الملكية أقوى من ذي قبل. واليوم، يسير حزب العدالة والتنمية الذي يرأس الحكومة الحالية على نفس الخطى، بعد قبوله بديمقراطية المساحيق. وهكذا فالملك محمد السادس، الذي سار على نهج أبيه، ينظر إلى إمكانية إدماج العدل والإحسان في الحقل السياسي الرسمي، عبر إنشاء حزب جديد، كاحتمال مقبول أقل تهديدا من الماضي، كما أن الجماعة نفسها لا تعتبر هذه الإمكانية أمرا مستحيلا، وخاصة بعد رحيل المؤسس عبد السلام ياسين، فهل يعيد التاريخ نفسه؟ ربما، ولو أنه من الصعب النفاذ إلى ما يدور في ذهن قيادة الجماعة، أو التكهن بتغيرات موازين القوى الداخلية التي تعيشها. ورغم ذلك فإن التوجهات المحتملة تبدو متمحورة حول ثلاث سيناريوهات:

  1. المصالحة مع القصر والاندماج في الحقل السياسي الرسمي
  2. استمرار عدم المشاركة عملا بنظرية التربص إلى أن تنضج الظروف
  3. التحالف مع قوى سياسية أخرى مهمشة

فما هي ملامح كل واحد من هذه السناريوهات؟

  1. الخيار الأول، المصالحة مع القصر والاندماج في الحقل السياسي الرسمي:

 على غرار التميز الذي يحرص عليه الثنائي حزب العدالة والتنمية، وحركة التوحيد والإصلاح، بين المجالين السياسي والدعوي، فإن الدائرة السياسية للعدل والإحسان، بقيادة كل من فتح الله أرسلان وعمر إحرشان، على نفس التميز بين المجالين، وهو ما يفسر وجود شخصية من طينة أرسلان في منصب نائب الأمين العام، بينما يكتفي الأمين العام محمد عبادي بالجانب الروحي. على العموم، فإن جزء من أعضاء الدائرة السياسية يميلون اليوم أكثر من الماضي إلى اقتحام العمل السياسي، بما في ذلك المفاوضة مع المخزن. وهذا ما يعبر عنه أرسلان حين يقول إن تحول الجماعة إلى حزب سياسي ليس مشكلة الجماعة بل مشكلة الدولة، التي لا زالت لا تقبل إلا بالأحزاب التي ترضخ مسبقا للخطوط الحمراء، ولا تعتبر أن تأسيس حزب سياسي حق لكل مواطن، وهكذا فالمشكل ليس في الدستور أو القانون. إن موقف أرسلان هذا يختلف عن مواقف المرحوم عبد السلام ياسين الذي كان يعتبر أن المساهمة السياسية ترتبط بنضج الظروف الاجتماعية وليس برغبة القصر. كما أن موقف أرسلان يختلف شيئا ما عن موقف العبادي (المنسجم مع موقف ياسين) حيث يقول إن “نظام الحكم في الإسلام محدد شرعا، وهو نظام قائم على الشورى وليس على الوراثة الذي بدا منذ الانكسار التاريخي وتحول الأمر إلى ملكية عامة، نحن نعاني من الـمُلك، وتدريجيا -إن شاء الله- سنتخلص من هذا النظام، ونعود إلى ما جاء في كتاب الله” . ويزداد موقف العبادي وضوحا عندما يصرح: “فمشروعنا قائم على محاربة الاستئثار بالسلطة وبالمسؤولية دون إرادة الأمة التي لها الحق في اختيار من يقودها. كما أن الشورى عندنا عقيدة وعبادة قبل أن تكون أسلوبا في التدبير والتسيير واختيار المسؤولين، وممارستها تقرب إلى الله تعالى وليست تسويقا خارجيا، ومن ذلك أن الانتخابات معتمدة داخل الجماعة على جميع المستويات والوظائف والمجالس المسؤولة”. وهنا نذكر أن من بين أسباب مغادرة ياسين للطريقة الصوفية البودشيشية هو رغبته في ممارسة السياسة بالإضافة للتزكية الروحية.

صحيح أن عدم دخول الجماعة لحد الآن إلى المعترك السياسي الرسمي وعدم قبولها بالملكية جنَّبها العديد من المشاكل منها تآكل المصداقية بسبب نظرة المغاربة السلبية للسياسة والسياسيين، وهو ما عبر عنه الباحث فرانشيسكو كافاطورطا Francesco Cavatorta عام 2007 حين لاحظ أن الجماعة واعية بأن نجاحها بُنيَ على رفضها الجلوس على نفس الطاولة مع الفاعلين السياسيين الآخرين في المغرب، ولو أنها حاولت في بداية تأسيسها أن تنشئ حزبا سياسيا ولم تفلح، لكن الجديد اليوم هو ظاهرة “الغيرة” من حزب العدالة والتنمية التي تراود بعض أعضاء الدائرة السياسية للجماعة. في هذا الصدد، يقول أحد قياديي العدالة والتنمية رفض الكشف عن هويته: “إنهم (الجماعة) يتهموننا بتقديم التنازلات، وهي ضرورية في السياسة، ولا يكفون عن الشكوى من الظلم والحلم بإطاحة الاستبداد. فهم يقبعون في مثاليَّتـهم ويتفرجون علينا نمارس التدبير الشاق. لو كانوا مكاننا لفعلوا مثلما نفعل.”

تشير بعض المعطيات اليوم أن الدائرة السياسية إذا اتخذت القرار بالنزول للمعترك السياسي فإنها لن تبالي بموقف الجناح الديني في الجماعة، علما أن نموذج اقتسام الأدوار بين السياسي والدعوى الذي انتهجه حزب العدالة والتنمية مع حركة التوحيد والإصلاح قد أثار نقاشات مستفيضة داخل مجلس شورى الجماعة، خاصة وأن هياكل الحزب الذي قد يتم إنشاؤه جاهزة: الفروع الإقليمية، والذراع النقابي، والشبيبة، والتنظيم النسوي.

إلا أن هذا المنحى يواجه صعوبات خارجية وداخلية. أولا، هل سيقبل القصر بهامش من المرونة فيما يتعلق ببعض الطقوس وهل سيقبل بشيء من المحاسبة؟ من جهة أخرى فالجماعة عليها في حالة المشاركة السياسية أن تخفف من مواقفها المناهضة للملك، ولا يوجد في الوقت الراهن أي استعداد من أي طرف لهذا النوع من التنازلات المتبادلة، كما أن دخولها للبرلمان والعجز عن تغيير السياسات سيفقدها نصيبا من التأثير لكونها اليوم تمارس المعارضة من خارج المؤسسات وتبني جزء من خطابها على عدم الجدوى من تلك المساهمة ضاربة المثل بضعف تأثير حزب العدالة والتنمية ولو أنه يقود الحكومة، لأن اللعبة متحكَّم فيها من طرف المخزن. إن دخول الجماعة للمؤسسات سيشكل انتصارا تاريخيا للمخزن الذي سيبدو وكأنه أفلح أخيرا في ترويض أكبر وأعند فصيل إسلامي. ولا نبالغ إن قلنا إن هذا العناد شكل السمة المميزة للجماعة وأكسبها شعبية أكبر من أي كيان حزبي آخر جرى استقطابه من قبل. ذلك أن كلاًّ من الاتحاد الاشتراكي ثم من بعده العدالة والتنمية كان يلوح بأنه سيمارس الضغط الكافي من أجل الإصلاح عندما يصل إلى دواليب الدولة ولكن الواقع أظهر أنهما رضخا للقصر، ولذلك فإن الجماعة إن سلكت سبيلهما فالأرجح أنها ستجد نفسها يوما من ضمن الراضخين.

  1. الخيار الثاني، استمرار عدم المشاركة عملا بنظرية التربص إلى أن تنضج الظروف

لا ترغب الدائرة السياسية الكشف عن أوراقها، وهو ما يعلق عليه أحد الصحافيين قائلا: “إنهم يراوغون لكيلا يكشفوا للملكية حجم التنازلات التي سيقبلون تقديمها”. ذلك أن الجماعة حريصة حقا على أن تحتفظ بكامل قوتها التفاوضية، لأنها تدرك المصير الكارثي الذي لقيه من سبقها من الأحزاب المرتمية في أحضان المخزن. حتى الآن، شكل موقف الجماعة من الملك رمزا لعدم قابليتها للاستقطاب من طرف القصر، ودليلا على متانة استراتيجيتها ذات العمق الديني التي منحتها المصداقية وجعلتها تحظى بالقبول لدى الكثير من المغاربة الفاقدين للأمل، ومنهم فئة من الفقراء. إن الجماعة تمسك جيدا بأدوات التأثير، من دعوة وتأطير للاحتجاج ووسائل أخرى، وقد حاول الحسن الثاني مراراً خلال فترة التسعينيات التودد لعبد السلام ياسين لممارسة السياسية كباقي الأحزاب على شرط أن يقبل الاعتراف به كأمير المومنين، ولم يفلح في كسر إرادة الشيخ. في الظرف الحاضر، ونظرا للمحن التي تعيشها تيارات الإسلام السياسي في بلدان الربيع العربي، فإنه من المستبعد أن تغامر الجماعة بالولوج لمعترك السياسة الرسمية بالمغرب، لأن قرارا كهذا من شأنه أن يغير نوعية أعضائها وحجم تأثيرها، ولكن إلى أي مدى؟

هناك أيضا سبب يدعو للتريث في منطق الجماعة، وهو مفهوم القومة المتجذر في ثقافتها، وخلاصته أن الاحتجاجات الاجتماعية ستتحول إلى فرص يجب استغلالها والتحالف مع مكونات أخرى من المجتمع كما حدث مع حركة 20 فبراير.

ارتبطت مسألة القومة بقضية الرؤيا التي حكاها عام 2006 ياسين لأتباعه، حيث زعم أنه رأى في منامه أن قومة روحية وسياسية على وشك أن تنتفض وتكنس النظام القائم ثم تنشأ على أنقاضه دولة إسلامية، وهي الرواية التي أحرجت بعض القادة في الجماعة مثل عبد الواحد المتوكل وفتح الله أرسلان. لم تتحقق الرؤيا، بل ما تحقق هو قمع السلطة المتزايد لأعضاء الجماعة بما في ذلك المئات من الاعتقالات، وتشديد المراقبة على أنشطتهم، ثم مغادرة عدد من الأعضاء للجماعة بسبب اليأس والإحباط، حسب بعض المصادر. مرت سنة 2006 ومرت أيضا سنة 2011 واحتجاجاتها ولم تتحقق القومة بعد، بل كانت الحصيلة ديمقراطية الواجهة، وترسيخ سلطة الملك، واشتغال الأحزاب بالتفاهات السياسية.  في هذا المناخ تطرح مسألة الانشقاقات تحديا جديا لتماسك الجماعة على المدى القصير، سواء كان المنشقون شبابا متحمسين للمشاركة السياسية، أو كانوا من الأعضاء القدامى الذين يخشون انحراف الجماعة عن مبادئها الأصلية، أو حتى بعض النساء اللواتي اشتكين من ازدياد “سلطوية” القيادة بعد وفاة الشيخ ياسين. على العموم، تظل قيادة الجماعة أكثر دوغمائية من قاعدتها الواسعة التي تبدو أكثر ميلا للمشاركة السياسية والانفتاح على تنظيمات ذات إيديولوجية مختلفة. على سبيل المثال، بينما تقاطع الجماعة الانتخابات رسميا، لا يتردد كثير من أتباعها في التصويت على مرشحي حزب العدالة والتنمية.

على صعيد تنظيمي، ازداد التوتر بعد وفاة ياسين بين ابنته نادية ياسين وفتح الله أرسلان، نائب الأمين العام الحالي، مما كانت له تداعيات سلبية على القطاع النسائي، وهذا يدل على أن التدين لا يمنع المشاحنات. لقد استطاعت نادية أن تفرض نفسها خلال فترة معينة كنموذج للكاريزما النسائية في حقل الهيآت الإسلامية، بالإضافة إلى تواصلها الجيد مع الجامعات الأمريكية ومع العالم الغربي على العموم، وبعض التصريحات الجريئة، وهي أمور من شأنها أن تشكل مصدر إزعاج، وقد تعرضت لحملات لتشويه الصورة بأدوات غير أخلاقية.

وكيفما كانت درجة صحة الرواية القائلة إن نادية ياسين خضعت لمحاولة التهميش من الداخل، فإن هذه الأخيرة محسوبة على التيار الرافض للمشاركة السياسية، على غرار والدها، خلافا لأرسلان وإحرشان اللذين يميلان لتقديم بعض التنازلات واقتحام المغامرة السياسية من داخل المؤسسات. عن هذا الجانب، تلاحظ سيدة غادرت الجماعة مؤخرا: ” كان المرحوم ياسين يسعى ليكون للنساء دور جاد في الجماعة، على خلاف القيادة الجديدة التي تفضل أن تستعملنا كواجهة فقط، وكـأنها تقول للملك وللغرب: انظروا، نحن أيضا لدينا نساء ناشطات. إنها نفس المقاربة التي يتبناها الملك وحزب العدالة والتنمية على السواء.”

إن مقاربة النوع هذه، هي التي يستغلها الملك وغيره من الحكام العرب المستبدين، ليوهموا الناس أنهم أبطال في مجال حرية المرأة وأن سياستهم متحررة، ونكاية في الإسلاميين، بينما الحقيقية أنهم يكتفون باللعب على الرموز النسائية.

وعلى كل حال فإن القضية النسائية تظل في الوقت الراهن أقل أهمية من انحسار الإسلام السياسي في المنطقة. إن هذا العامل يتظافر مع عودة الهيمنة المخزنية من جهة، ورحلة البحث عن الذات التي تعيشها الجماعة من جهة أخرى، ليرجح استمرار الوضع الراهن كخيار في الوقت الحالي، في انتظار ما تجود به الأيام المقبلة من متغيرات.

  1. الخيار الثالث، التحالف مع قوى سياسية أخرى مهمشة

يتلخص الخيار الثالث المطروح أمام العدل والإحسان على المدى القصير في الاستمرار في النأي عن الحقل السياسي الرسمي بالموازاة مع الترتيب والتنظيم لمواجهة الملك. هناك من يهمس إن هذه الاستراتيجية تعززها رغبة الجماعة في التحالف مع حركات لائكية (أو علمانية) مثل حركة 20 فبراير تشترك معها في العداء للمخزن. بالفعل، لقد استطاعت 20 فبراير لفترة ما أن تجمع تحت خيمتها الإسلامي واليساري، وهو ما شكل تحديا هائلا للمخزن الذي نجح دوما في الماضي في تشتيت المعسكريْن، وقد أصابته غبطة ما بعدها غبطة عندما انسحبت الجماعة من الحركة. إن المخزن أصبح اليوم يفضل سيناريو نمو الجماعة وتطورها ولكن وحدها على سيناريو تحالفها من جديد مع الآخرين.

قد تسعى الجماعة للتحالف إذن مع اليساريين اللائكيين بغية إنهاك المخزن، ولو أن إعادة بناء حركة 20 فبراير لأجل هذا الهدف تبدو اليوم احتمالا ضئيلا للغاية. هناك حليف محتمل آخر للعدل والإحسان، إنه حزب العدالة والتنمية الذي يغريه التفوق العددي للجماعة ويسعى لإقناعها بمزايا المشاركة السياسية. على العموم، لقد أبدت الجماعة ترحيبها بمبادرات الحوار الديمقراطي بين اليساريين والإسلاميين في أفق تحالف يستفيد من الدرسين المصري والتونسي، وهو ما يعبر عنه فتح الله أرسلان عندما يتحدث عن “القيم المشتركة كالعدالة الاجتماعية” التي توحد الجماعة مع الفصائل اللائكية، وهي نفس الفكرة التي يدافع عنها قيادي آخر في الجماعة هو عبد الله الشيباني، زوج نادية ياسين، عندما يذكر أن شبيبة الجماعة ساهمت في التقارب بين التيارات اليسارية واللائكية، ولا داعي للتذكير  أن استمرار الانقسامات بين المعارضين الإسلاميين واليساريين يعزز هيمنة الملك.

إلا أن الحوار والتقارب لا يعني بالضرورة أن مآله المشاركة السياسية الرسمية، وقد نظمت الجماعة مؤخرا (بداية صيف 2014) لقاء مع أعضاء من حزب الاستقلال، وحزب الاتحاد الاشتراكي، ورجال أعمال ويساريين، لمناقشة سبل تعزيز الديمقراطية في البلاد وإرساء أسس تعاون محتمل. وقد تناول الحاضرون مواضيع شتى، مثل الإسلام السياسي والسلطة، والعلمانية والإرهاب. لم يتمخض اللقاء عن نتائج أو قرارات محددة، إلا أن ما تسرب هو أن اليساريين المشاركين لم تتبدد هواجسهم حول الرؤية المجتمعية لدى العدل والإحسان.

علامات استفهام إضافية حول احتمال مشاركة الجماعة في السياسة

إذا ما أسست الجماعة حزبا سياسيا فكيف سيكون أداؤه؟ لا زالت ميكانزمات الجماعة إلى اليوم غير مؤهلة لكي تنتج فعلا سياسيا قويا، فرغم الخطاب الذي يردد ضرورة إصلاحات عميقة في السياسة الخارجية والاقتصاد والتشغيل وتدبير الحقل الديني وغيرها من الميادين، فإن مواقفه تظل مبنية أولا وقبل كل شيء على معارضة الملكية، وبالتالي فإن اقتحامه الفضاء السياسي الرسمي لا بد أن تسبقه ترتيبات من طرف القصر، كما أن تجربة العدالة والتنمية ستكون مفيدة. لا شك أن هذا الحزب يُتنقد بسبب فشله في محاربة الفساد والتقليص من البطالة وأمور أخرى وعد بها المواطنين، ولا شك أيضا أن العراقيل الموضوعة في طريقه من طرف الملك والبرلمان على السواء ساهمت في فشله، ولكن ضعف تجربته السياسية ساهمت أيضا، وليس هناك ما يدعو للاطمئنان بأن العدل والإحسان سيكون أداؤها أحسن بكثير، كما أن الغموض يلف قدرة الجماعة على التوفيق بين نداءاتها للعمل بالآليات الديمقراطية وفي نفس الوقت الاحتكام للشريعة.

أما علامة الاستفهام الثانية فتخص مصير حزب العدالة والتنمية إذا ما لم تتحالف معه العدل والإحسان في جُبَّتها الحزبية المفترضة. في هذا السيناريو سيفقد حزب بنكيران نصيبا من المتعاطفين معه الحاليين، وقد يستعمل النظام أحدهما ضد الآخر. وبما أن بعض أعضاء العدالة والتنمية يقاومون المخزن فقد يلتحقون بالحزب الجديد، ومن المرشحين المحتملين لهذه القفزة مصطفى الرميد وزير العدل الحالي، ولو أنه ساعد على تمرير قرارات المخزن، وغض الطرف عن التعذيب وأنكر وجود معتقلين سياسيين. وفي هذه الحالة قد يكون حليفه في الجهة المقابلة هو عمر إحرشان الذي يقاوم المخزن أكثر من معارضته للعدالة والتنمية. أما إذا تحالف الحزبان فسينجحان معا في اكتساح مقاعد البرلمان، مما سينغص مضاجع القصر. وحتى في هذه الحالة فإن القصر سيلجأ إلى كل أدواته وما أكثرها، لكيلا يؤثر هذا التحالف على شعبية الملك وتحكمه في البرلمان.

تبقى علامة الاستفهام الأخيرة، وهي مصير مكونات الحركة الإسلامية الأخرى. سواء تعلق الأمر بالبديل الحضاري أو الحركة من أجل الأمة، وكلاهما يحسب على تيار ديمقراطي إسلامي، فإن درجة حضورهما في الساحة لا زالت هامشية، أما جماعة العدل والإحسان، ونظرا لحجمها ومواقفها، فإن تحولها للعمل المؤسساتي سيكون بمثابة حدث كبير في الحياة السياسية للبلاد. إن هذا التحول سيعطي معنى آخر ويطرح بوضوح أكبر مسألة الجدوى من مساهمة الإسلاميين المعتدلين في السلطة.

إن ما أبرزته عملية استقطاب العدالة والتنمية، ثم التحركات الأخيرة للعدل والإحسان وإرهاصاتها، تبرهن على الأقل على أن الإسلاميين بإمكانهم التصرف باعتدال، إذا ما وجدت المحفزات لذلك.

التوصيات الموجهة للإدارة الأمريكية

ملاحظات أولية:

–         بالنسبة لأمريكا، المغرب بلد حليف، يساهم في الحرب على الإرهاب، وتربطه معها اتفاقية للتبادل الحر، وله علاقات جيدة مع دول أفريقيا الغربية المهددة بالإرهاب، ومواقفه من مسلسل السلام الفلسطيني الإسرائيلي معتدلة جدا، وهو مستقر مقارنة مع بلدان الجوار. لأجل ذلك فصانع القرار السياسي الأمريكي عليه أن يكون حذرا جدا من أية نصيحة ودية يقدمها للمغرب وتكون لها نتائج سلبية على العلاقات بين البلدين.

–         لا زال الغموض يلف وضع الجماعة اليوم وتوجهها المستقبلي، وقد تحدث تطورات توضح إلى أي مدى ستكون “معتدلة” إن ساهمت في ممارسة السلطة.

لابد إذن من رصد مستمر للمؤشرات المرتبطة بموقف الجماعة، علما أن أحسن سيناريو بالنسبة للملكية هو التوصل لتسوية ما لاستيعاب الجماعة ضمن المؤسسات وإنهاء التربص المتبادل، كما أن تحالفها مع القوى اللائكية المعارضة (وهو احتمال ضئيل)، يشكل تهديدا جديا للحُكم.

أسس العلاقات المغربية الأمريكية: هناك ثلاثة أسس لهذه العلاقات وكلها تساهم في استقرار المغرب.

أولا. الجانب الأمني: المغرب حليف تاريخي للغرب، وساهم ولايزال في الحرب الأمريكية على الإرهاب وخاصة في ميدان المخابرات. والمغرب، بعد أن أصابه الإرهاب عام 2003أصبحت له استراتيجية استباقية ناجحة، وبدأ مؤخرا يصدر نموذجه في الحقل الديني إلى بلدان إفريقية لأنه يطمح ليصبح رائداً في محاربة التطرف ويمكنه حراسة أمن غرب منطقة الساحل الإفريقي.

ثانيا. الجانب التجاري: وقع المغرب عام 2004 اتفاقية للتبادل الحر مع أمريكا، دخلت حيز التنفيذ عام 2006، ومنذ ذلك الحين والولايات المتحدة تسوق للعلاقات المغربية الأمريكية كنموذج للروابط الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية التي تجمعها مع نظام صديق ومعتدل، وعليه فالمغرب يستفيد من مبادرات ومساعدات أمريكية مثل مشروع تحدي الألفية بغلاف مالي يناهز 700 مليون دولار، يخصص لتطوير الصناعة التقليدية والصيد البحري وبعض الزراعات وميادين أخرى.

ثالثا. التبادل الثقافي: هناك العديد من المبادرات التي تهم الشباب والصحافيين ورجال الأعمال ونشطاء المجتمع المدني، وتشجيع السياحة، كما أن أكثر من 200 من الشباب الأمريكيين يأتون سنويا للمغرب في إطار التطوع لهيأة السلام Peace Corps للمساهمة في مشاريع تنموية والعيش مع سكان الجبال والبوادي.

مخاطر تستوجب الحذر

ليس من مهام واشنطن أن تتدخل في صياغة العلاقة بين القصر وجماعة العدل والإحسان، ولا في قرارات هذه الأخيرة، فلن يقبل ذلك لا هذا الطرف ولا ذاك، وقد أثبتت التجربة في بلدان عربية أخرى أن التدخل المباشر بين الأطراف ينتج سلبيات عدة. على ضوء تعثر تجربة حركة النهضة في تونس وانهيار حكم الإخوان في مصر، يجدر بالقصر في المغرب أن يبلور خطة استعجالية تسمح للملك في كل الأحوال أن يُلجم سلطة الإسلاميين. ذلك أن التجربة أظهرت أن الإسلام السياسي ليس بالضرورة متعارضا مع الآليات الديمقراطية، ولكن توفره على سلطة غير محدودة يدفع إلى تحول سلطته الأوتوقراطية إلى سلطة ثيوقراطية، كما أن حلم الخلافة الذي يراوده يدفعه لغض الطرف عن الفساد والتسلطـ، بل معاداة حلفائه الغربيين. وفي حالة المغرب، ستلعب المحفزات من جهة، وآليات الحد من سلطات الإسلاميين من جهة أخرى، دور الكابح لكل نزعة إلى المقاربة الراديكالية أو الثيوقراطية للممارسة السياسية.

الخيارات المفتوحة أمام الدبلوماسية الأمريكية

على ضوء ما سبق، تقتضي الحكمة أن تكتفي واشنطن بمراقبة الوضع عن كثب، فإذا ما تبين أن توجهات الجماعة تبعث على الاطمئنان، لا بأس أن تبني سياستها مع المغرب على هذه العناصر:

–         الترحيب بالمصالحة بين الملكية والجماعة وبإدماج هذه الأخيرة في الحقل السياسي، علما أن عدم المشاركة السياسية لم يكن يوما خيارا نابعا من القناعات العقدية للجماعة بل نتاج ظروف سياسية. كما أن الجماعة من شأنها أن تساهم في التقليل من تأثير التيارات الإسلامية الخارجية السلبية مثل خطب يوسف القرضاوي وعمرو خالد التي تحظى بشعبية كبيرة، ربما أكبر من خطب عبد السلام ياسين بنفسه.

–         تشجيع الإصلاحات الدستورية التي تمهد للإدماج، وهذا يتطلب أن يكون للبرلمان صلاحيات أوسع من الحالية. حاليا يستطيع الملك أن يقيل الحكومة أو يحل البرلمان متى شاء. على العموم، يجب أن تتضمن التسوية أو الصفقة تعزيزا لسلطة البرلمان من بين المحفزات. في هذا الصدد، من المستحب أن تشجع الإدارةُ منظماتٍ أمريكية عاملة في ميدان تعزيز الديمقراطية، مثل المعهد الوطني الديمقراطي والمعهد الدولي الجمهوري، على الاشتغال مع الأحزاب المغربية والنظام المغربي على هذا الموضوع. وإذا كانت الإدارة واعية بأن الفصل الحقيقي بين السلط بين القصر والبرلمان والقضاء، لا زال أمرا بعيد المنال، فإنها تستطيع الاستمرار في الضغط لكي يحظى القضاء بمزيد من الاستقلالية، لأن محاكم المملكة خضعت تاريخيا للقصر ولوزارة العدل.

–         تشجيع ومساعدة الحكومة المغربية على تحسين الخدمات الاجتماعية وخاصة في الأحياء الفقيرة في المدن، والتي تعتبر خزانا لأتباع جماعة مثل العدل والإحسان، ولذلك وجب مزاحمتها في عين المكان. وإذا كانت الدولة تصرف أموالا لا بأس بها على الحقل الديني لتحجيم شعبية الجماعة وشعبية التيار السلفي أيضا، فالواقع أن جاذبية العدل والإحسان لا تعتمد فقط على الجانب الروحي. كما أن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية غير كافية بل يجب تعزيزها بمشاريع وعمليات تنافس مباشرة العمل الاجتماعي الذي يستحوذ عليه الإسلاميون.

–         إن الزيارات الميدانية تظهر أن الكثير من مشاريع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية تميزت بدعاية كبيرة ونجاعة ضعيفة، وأن هناك بنايات كبيرة وجميلة تم تدشينها ولكنها تأوي اليوم موظفين بكفاءة غير ملائمة ويشتغلون في الفوضى، وكأن المبادرة أصلا تروم الترويج في الخارج لوهم المغرب الذي يتقدم. أما الحوارات مع الشباب المهتم بالتنمية فهي تكشف أنهم يتعاملون أكثر مع مناضلي العدل والإحسان أو مناضلي العدالة والتنمية، بغض النظر عن الاهتمام بالدين أو السياسة، أما إذا سـألتَهم عن مفهوم المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، فهم إما يجهلونه أو يربطونه بضعف النتائج الملموسة.

في الختام، فإن جماعة العدل والإحسان تنظيم ذو امتداد شعبي واسع ويشكل مصدر قلق كبير للنظام المغربي، وهو اليوم أمام مفترق الطرق، مما يشكل فرصة يجدر استغلالها، وهنا تستطيع أمريكا أن تستعمل أدوات التأثير الناعم التي في حوزتها لتقدم ما تستطيع من مساعدة.

Sign In

Reset Your Password