أحجمت روسيا عن توجيه دعوات الحوار الدبلوماسي من أجل السلام والهدنة في الحرب الدائرة في أوكرانيا، بينما تصدر دعوات قد تبدو غريبة ولكنها واقعية من الغرب حول ضرورة تخلي أوكرانيا عن بعض أراضيها لروسيا. ويبدو من خلال التطورات الحربية والتصورات الجيوسياسية المعتمدة في هذه المواجهة كيف لن تصبح أوكرانيا لموسكو بمثابة «أفغانستان جديدة» عكس الرواية التي روج لها الإعلام الغربي وعدد من المحللين في مراكز التفكير الاستراتيجي.
خلال هذه الأيام، تكون قد مرت سنة ونصف بالتمام والكمال على شن روسيا الحرب ضد أوكرانيا. وهي مدة زمنية كافية لمعرفة الواقع الميداني للحرب والتأكد من صحة أو عدم صحة عدد من المعطيات والأطروحات التي جرى تداولها لاسيما من طرف مراكز التفكير الاستراتيجي في الغرب ومن طرف القيادة السياسية للغرب أكثر من القيادة العسكرية. ويمكن الوقوف على ثلاثة تصورات تجمع بين الفكري-التاريخي والميدان الحربي، وهي:
أوكرانيا ليست أفغانستان
اعتاد المحللون المهتمون بتاريخ الحروب العودة إلى التاريخ من أجل المقارنة واستخلاص النتائج والدروس. وفي حرب مثل أوكرانيا تتميز بطغيان الدعاية والبروباغاندا أكثر من التحليل المنطقي من الطرفين، هرع الغرب إلى الترويج بأن أوكرانيا ستكون هي أفغانستان الجديدة لروسيا بقيادة فلاديمير بوتين. غير أن تصور الكرملين لهذه الحرب وتطوراتها الميدانية يؤكد وجود فارق كبير بين الحالتين.
في هذا الصدد، تدخل حرب أفغانستان في السبعينات ضمن حروب التوسع الشيوعي والتموقع جيوسياسي السوفييتي وقتها. وفشل الجيش السوفييتي لأنه لم يأخذ بعين الاعتبار طبيعة الحرب في مناطق جبلية، وكان بعيدا عن الإمدادات اللوجيستية. في الوقت ذاته، كان الاتحاد السوفييتي في تراجع كبير نتيجة تدهور الأوضاع المعيشية ومطالب الجمهوريات بالانفصال، ولم تكن هذه الحرب مصيرية للأمن القومي السوفييتي لكن القيادة السوفييتية لم تأخذ بعين الاعتبار ما يمكن أن تترتب عنه من استنزاف، علما أن جميع الدول الكبرى فشلت في السيطرة على أفغانستان ومنها بريطانيا خلال القرنين 19 و20 ثم الاتحاد السوفييتي وأخيرا الولايات المتحدة التي انسحبت منذ سنتين.
في المقابل، ترى موسكو في الحرب ضد أوكرانيا أمنا قوميا حيويا لا يمكن التساهل والتسامح معه نهائيا. وشددت في أكثر من مناسبة على أن أوكرانيا هي العمق الاستراتيجي لروسيا، وانضمام هذا البلد إلى الحلف الأطلسي، سيجعل روسيا في مرمى الصواريخ النووية والكلاسيكية الغربية. ولدى روسيا حساسية خاصة بشأن حدودها الغربية لأنها تحمل ذكريات مأساوية مثل محاولة غزو كل من نابليون في القرن التاسع شعر وهتلر في القرن العشرين للأراضي الروسية. وكان فلاديمير بوتين قد شدد على أن مستقبل روسيا مرتبط أشد الارتباط بنتيجة هذه الحرب ولا يمكن خسارة هذه الحرب نهائيا ولو اقتضى الأمر اللجوء إلى السلاح النووي.
في الوقت ذاته، تنطلق روسيا من مبدأ أن هذه الحرب يجب أن تكون منعطفا في تاريخ العلاقات الدولية الذي سيؤدي إلى نهاية هيمنة الغرب على العالم. ويركز بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف في خطابهما السياسي على ضرورة استغلال الحرب لإنهاك الغرب.
رواية استخدام السلاح النووي
منذ اندلاع الحرب، ردد الغرب في أكثر من مناسبة فرضية لجوء موسكو إلى السلاح النووي التكتيكي. وكان الهدف من وراء هذه الأطروحة هو التلميح إلى ضعف الآلة العسكرية الروسية في مواجهة الجيش الأوكراني المسلح بأسلحة غربية. وبعد سنة ونصف، يبرز الميدان الحربي معطيات لا يمكن الاختلاف حولها نهائيا ويمكن تلخيصها في ثلاثة معطيات أساسية ودالة للغاية وهي:
أولا، ضمت روسيا من أراضي أوكرانيا ما يفوق 120 ألف كلم، أي ما بين خمس وسدس مساحة أوكرانيا لاسيما منطقة الشرق الغنية بالموارد الطبيعية التي انضافت إلى شبه جزيرة القرم. وفشلت أوكرانيا في استعادة أي مساحة مقبولة باستثناء بعض القرى بين الحين والآخر نتيجة انسحاب الروس. ولا تستبعد موسكو سيناريو التقدم نحو الوسط الأوكراني إذا اقتضت الضرورة.
ثانيا، فشل الهجوم الأوكراني المضاد الذي جرى التلويح له منذ شهور ورافقته بروباغاندا كبيرة بالترويج لأسلحة جرى تقديمها كأسلحة حاسمة للحرب مثل نظام باتريوت للدفاع الجوي وصواريخ هيمارس ومؤخرا يجري الحديث عن مقاتلات إف 16. كل هذه الترسانة الغربية أثبتت الفشل أمام الآلة العسكرية الروسية. وصدر نهاية الأسبوع الجاري تقرير عن المخابرات الأمريكية، نشرته جريدة «الواشنطن بوست» يبرز استحالة تحقيق الجيش الأوكراني أي هدف من الهجوم المضاد. وتبقى المفارقة أن الخبراء العسكريين في الغرب يتفادون الحديث عن نجاح الهجوم المضاد عكس ما روج له السياسيون وبعض الخبراء المكلفين بالبروباغاندا.
ثالثا، تعتبر هذه الحرب تيرموميترا لتقيس به الدول الغربية أي مواجهة عسكرية ضد روسيا مستقبلا. وبدأ يتبين كيف يحتاج الغرب وخاصة الدول الغربية لسنوات طويلة من الاستثمار العسكري للحد من خطورة الصواريخ فرط صوتية أو الباليستية الروسية. بل دفع الدول الأوروبية إلى الاستعانة بنظام آرو 3 الإسرائيلي للدفاع الجوي أمام صعوبة إنتاج أنظمة ذاتية بالنسبة الكافية أو الحصول على نظام باتريوت الأمريكي.
تقديم أوكرانيا قربانا لروسيا
قال مدير المكتب الخاص لأمين عام حلف «الناتو» ستيان غنسن، خلال الأسبوع الجاري إن أوكرانيا يمكن أن تنضم إلى الحلف مقابل «التنازل عن جزء من أراضيها لروسيا». وأشار إلى أن هناك «تقدما كبيرا» في قضية عضوية أوكرانيا في «الناتو». وأثارت تصريحات ستيان غنسن بشأن تنازل أوكرانيا عن بعض أراضيها في مقابل الانضمام إلى الحلف جدلا كبيرا. وتؤكد أوكرانيا أنها لن تستبدل عضوية الحلف الأطلسي.
هذه التصريحات ليست جديدة بل هي تصور وسط الغرب، وكانت برلين عن كشفت عن هذا التصور منذ شهور، ما أثار غضب كييف وقتها. ويعكس هذا التصور في العمق اقتناع الحلف الأطلسي باستحالة نهاية الحرب من خلال إجبار روسيا على الانسحاب من أراضي أوكرانيا التي ضمتها إليها وهي أقاليم دونساب وشبه جزيرة القرم، سواء عبر الحرب أو الحوار الدبلوماسي. وقد يراهن الغرب على استفتاء تقرير المصير في المناطق التي ضمتها روسيا لوحدتها الوطنية كحل مقبول من الطرفين.
في الوقت ذاته، تعكس هذه الأطروحة مدى اقتناع الغرب بتحول حرب أوكرانيا استنزافا للغرب أساسا قبل روسيا، بحكم أن هذه الأخيرة وجدت في الصين ودول البريكس وأفريقيا بديلا اقتصاديا ودبلوماسيا. ويكفي رؤية كيف تحولت مجموعة البريكس إلى البديل المنافس للغرب بمؤسساته مثل «السبع الكبار». كما كشفت هذه الحرب عن عدم استعداد الغرب لحرب كلاسيكية ضد روسيا بسبب التراخي خلال العقدين الأخيرين في تطوير الصناعة الحربية.
وهكذا، فبعد سنة ونصف من الحرب، تحولت معطيات الواقع إلى حقائق قوية وهي: لن تتحول أوكرانيا إلى أفغانستان جديدة، وأصبح الغرب مقتنعا بصعوبة تحقيق أي انتصار عسكري ولو في حده الأدنى على القوات الروسية، وأخيرا، لن يتردد الغرب في دفع أوكرانيا مستقبلا للتخلي عن أراضيها إذا تحولت هذه الحرب إلى استنزاف خطير له.