تشريح نظام ملكي في كتاب “مذكرات الأمير المبعد”/أحمد بيضون

أحمد بيضون

في «المرحلة» الثانية من كتابه، وهي المرحلة التي تغلب فيها تغطية عقدٍ ونصف عقد انقضت من عهد ملك المغرب الحالي محمد السادس، يميل الأمير هشام العلوي، صاحب «المذكّرات» الفريدة التي عرضنا «المرحلة» الأولى منها في مقالتنا السابقة، إلى تغليب الرصد العامّ لمشكلات النظام والمجتمع المغربيين وإلى الوصف المُحْكم، وإن يكن إجمالياً، لمعالم المعالجة الممكنة. عليه نجدنا في هذا القسم حيال مطالعة متينة الإسناد، جيّدة السبك، لحال المغرب في هذه السنوات الأخيرة ولحدود الإصلاح الذي كان قد باشره الحسن الثاني في نهاية عهده واستأنفه خليفته حتى وصل به إلى مآل دستوري في الاستفتاء الذي انتهت إلى فرضه حركة الاحتجاج المسمّاة حركة 20 فيفري (شباط) 2011. وكانت هذه الحركة نصيب المغرب من المدّ الكبير الذي أطلق عليه اسم «الربيع العربي». ويرى الأمير حدود هذا الإصلاح ضيقة على الحاجات الماثلة التي يبرز اضطرار النظام إلى الاستجابة لها إذا هو شاء المحافظة على نفسه…
وإذ يميل المؤلّف في هذه الفصول الأخيرة من كتابه إلى البحث العامّ في شؤون المغرب ونظامه، لا ينسى ما آل إليه أمره، هو هشام العلوي، مع الملك الجديد، ابن عمّه الذي يكبره بسنة واحدة وكان عشيره في البيت والمدرسة وأحد أقرب الناس إليه في طفولته وفتوّته. وما نقف عليه بهذا الصدد هو أن عهد محمد السادس شهد الانتقال من المحاولات الحثيثة لاسترداد «مولاي هشام» إلى الأسرة المالكة ومنطقها وسلطة رأسها، وهي ما طبع عهد الحسن الثاني، إلى المحاولات المتكررة لتحطيم حياة الأمير وتدمير سمعته وتثبيط مشاريعه في المغرب وخارجه وإخراجه من نطاق الأسرة إخراجاً لم تُستثنَ منه علاقته بأمّه وأخيه، وهي ما طبع المرحلة المنقضية من عهد الملك الحالي… يروي الأمير وقائع المساعي المنحطّة هذه مستنكفاً عن الجزم باتّهام الملك شخصيّاً بها (وعن الجزم ببراءته منها أيضاً) مؤثراً تسليط الضوء على «المخزن» ورجاله أي على النظام…
لا يجنح هذا الكتاب إلى التبجّح بصمود مؤلّفه في وجه ما عاناه. فهو يبقى سيرةً خفرةً لصاحبه تشدّد على ما جرى له ولا تبالغ في التشديد على ما فعل من جهته. بل إن المؤلف يحرص، في مطلع الكتاب، على الإشارة إلى كون ما لقيه يبقى، ولا ريب، دون ما عاناه مغاربة لا يحصون، في نفوسهم وأجسادهم، من بطش عمه الحسن الثاني. عمّه الذي كان، في الآن عينه، شديد التعلّق بالأطفال في أسرته وسريعاً إلى الضحك من فلتات «مجنونه» المفضّل. على أن الأمير لا يلتفت بما فيه الكفاية إلى أدواتٍ تَزَوّدها من منبته نفسه وخاض بها معركة استقلاله عن هذا المنبت…
فلا يماري القارئ المنصف في شجاعة هذا الأمير، وهو يواجه، من نعومة أظفاره، خصوماً لهم كل هذا البأس. ويلمس القارئ صدق سخريةٍ هادئة يخصّ بها المؤلف صورة «الأمير الأحمر» التي رسم له الإعلام ملامحها بحبر الإثارة. فما شأن «الحمرة» برجلٍ أراد لنفسه النجاح في الأعمال بهذا العناد كلّه ويريد لبلاده إصلاحاً يبرز، إذ يعيّن معالمه، عقلنة رأسمالية للنظام يعرف كلفتها الاجتماعية على الريفيين خصوصاً؟ وهو، إلى قوله بتحرير الإرادة الشعبية وتفعيلها، لا يخفي الميل (المنوطَ عنده بالقبول الشعبي) إلى الإبقاء على ترسيمة أساسية للنظام المغربي عمرها قرون ويحتاج الإصلاح نفسه في رأيه إلى ما توفّره من استقرار.
غير أن المؤلّف حين يشير إلى صحبته لذاك الشيخ النهياني من أبو ظبي ولما أنجده به المذكور ومعه نفرٌ آخرون من أصدقاء والده في وقت الشدّة… أو حين يشير إلى منحة عقارية ولَفَتات أخرى خصّه بها رأس الأسرة السعودية التي تحصي في عدادها أبناءً بارزين لإحدى خالاته الصلحيات… أو حين يذكر ما حظي به من عناية بجوار الأمير الحسن، ولي عهد الأردن في حينه، وإلى الصلة الوطيدة التي انعقدت بينه وبين الملك حسين… أو حين يشير إلى «جيرة» خالته الكبرى في باريس لقصر الأليزيه وهي «جيرة» أتاحت لها أن تستوقف فرنسوا ميتران لتحصل منه على موعد لابن شقيقتها الذي كان الاضطهاد الملكي يلاحقه في العاصمة الفرنسية… أو حين يشير إلى الحجم الضخم لتركة والده العقارية، ولو أن الاضطهاد نفسه أخّر كثيراً نيل الوَرَثة حقّ التصرّف بهذه التركة…
…أو حين يستعيد هذا الأمير من مخاطبيه أو ذاكريه اسمه: «مولاي هشام» (دون إمكانٍ لفصل اللقب عن الاسم) وهو اسمٌ تجعل «ياءُ النسبة» فيه كلّ متلفّظ به مُقِرّاً شاءَ أم أبى! بالولاء لصاحبه… فلا يبقى هذا «المولى» مولىً بلا تحديد لموضوع ولايته بل يصبح حُكْماً مولى المتكلّم أيّاً يكن! في كلّ من هذه الحالات وفي غيرها، يتراءى، عبْرَ ما يرويه الأمير من وقائع سيرته، فضلُ منبته عليه في ما انتهى إليه أمره من جولات كسبها ضدّ هذا المنبت نفسه. هي جولاتٌ كسبها هشام العلوي في وجه إصرار الملك والمخزن على وضع يدهما عليه والتحكّم بمصيره. غير أن أيّاً من «الأوراق» التي وجدها تحت يده، وهو يناوئ بيئته، ما كانت لتقع إلا تحت يده هو أو يد أمير من طينته. ذلك أمر كان يستحقّ لا ريبَ أن يستوي موضوع تأمّل في هذه «المذكّرات». لكن ذلك لا ينتقص بحال من ملحمة الشجاعة والعناد الشخصيين التي يسجّلها هذا الكتاب بخفرٍ وأناقة، ولا ينتقص بحال، على الأخص، من القيمة الأدبية الرفيعة لهذا الكتاب بما هو شهادة تفوق الوصف والأمل في الأحوال المعاصرة لبلاطٍ ونظامٍ دهريّين…

مصدر المقال: القدس العربي

مقالات ذات صلة

Sign In

Reset Your Password