احتضنت العاصمة مدريد يومي الجمعة والسبت من الأسبوع الماضي اجتماعا لزعماء الأحزاب القومية اليمينية المتطرفة في أوروبا التي تحمل اسم ائتلاف “باتريوت”، والتي سطرت برنامجا واضحا وهو “استعادة عظمة أوروبا”، ووضعت نصب أعينها الهجرة الإسلامية العربية. ويعتبر المغرب من ضمن الدول المستهدفة من طرف “ترامب الإسباني” الذي يريد نقل وصفة “ترامب ضد اللاتينيين” وتطبيقها “ضد الجالية المغربية”.
اختتام القمة بالتنويه بالرئيس الأمريكي ترامب ورفع شعار “استعادة عظمة أوروبا” على غرار “لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى” ليس من باب التقليد بل هو مخطط محكم لليمين القومي المسيحي المتطرف الذي يريد بناء جدار برلين، وهذه المرة ديني وحضاري بين الغرب وباقي العالم. يبدو أننا أمام عودة تلك الأطروحات التي تشيد بتفوق الإنسان الأبيض، الإنسان الغربي على باقي الشعوب.
كما أشرنا في مقالات سابقة، تنطلق جماعة ترامب من أفكار وآراء المنظر الجيوسياسي سامويل هانتغتنون الذي اعتبر أن كتابه الأخير “من نحن” أهم من كتابه “صراع الحضارات، فقد اعتقد أن الحفاظ على الهوية الأنجلوسكسونية للولايات المتحدة أولوية قصوى للحفاظ على ما يعتبره وحدة الوطن والمواطن. واعتبر التحدي الخطير الرئيسي هو المهاجر اللاتيني وعلى رأسه المكسيكي، بسبب ثقافته المختلفة ونسبته المرتفعة في المجتمع الأمريكي. ويحاول إقناع المواطن وصانع القرار السياسي الأمريكي بضرورة العودة الى الجذور الأولى للهوية الوطنية والتخلي عن فكرة أن الولايات المتحدة ذات مبادئ عالمية ومنفتحة على الجميع. ولهذا، ليس من باب الصدفة أن تسود الولايات المتحدة في الوقت الراهن أجواء توحي بأن ملاحقة اللاتيني المقيم بشكل غير رسمي أقرب الى ملاقحة الهنود الحمر في القرن القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وذلك بعدما أراد بعض السياسيين في ولايات مثل ميسوري وميسيسيبي تخصيص ألف دولار لكل من قام بالتبليغ عن مهاجر سري.
إن خطاب أحزاب اليمين القومي المتطرف في الغرب أصبحت تنهل من خطابات الحرب الصليبية باستحضارها الهوية الدينية، أي المسيحية ضمن طروحاتها، وبدأت تدريجيا تشيد سورا من التطرف لعزل الأقليات المسلمة وسط الغرب، ثم تجاه الدول الأصلية للمهاجرين. ويبقى المقلق في قمة مدريد لائتلاف “باتريوت” هو الاجتماع الذي عقده زعماء هذا اليمين المتطرف مع كيفن روبرتس، رئيس مؤسسة “هيريتاج” المحافظة الذي صاغ “مشروع 2025” الذي يحكم به الآن دونالد ترامب في الولايات المتحدة، وهو قائم على أفكار عنصرية متطرفة، حيث انتهى اللقاء المذكور بضرورة إنشاء مشروع سياسي وفكري وديني أوروبي مماثل.
ويبقى المثير هو استفادة ترامب في حملته الانتخابية الأولى التي أوصلته الى البيت الأبيض سنة 2017 من تجربة اليمين القومي المتطرف في أوروبا، حيث وجد فيه نموذجا يقتدي به من الناحية العملية أكثر من النظرية لأن الأفكار يستوعبها من هنتنغتون بينما الأساليب استوحاها في البدء من الجبهة الوطينة الفرنسية (حزب التجمع الوطني حاليا). وعلى صفحات القدس العربي نشرنا مقالا بعنوان “المرشح الرئاسي للبيت الأبيض دونالد ترامب ينقل خطاب الجبهة الوطنية الفرنسية في الهجرة ويجعل من اللاتينيين مغاربيي أمريكا”، بتاريخ 7 أغسطس/آب 2015: والآن، انقلبت الآية حيث بدأ اليمين القومي المتطرف الأوروبي “باتريوت” يستفيد من تجربة ترامب ويعتبره البوصلة. ويبقى المشترك بين جميع الأحزاب المتطرفة الأوروبية هو العداء للهجرة العربية والإسلامية. والحالة الخاصة وسط اليمين القومي الأوروبي المتطرف هو حالة حزب فوكس الإسباني بزعامة سانتياغو أباسكال الذي يتبنى مواقف الرئيس الأمريكي، وكان حاضرا في تنصيبه كرئيس يوم 20 يناير الماضي.
كيف ينهل الإسباني أباسكال من ترامب؟ يؤمن ترامب أن المكسيك هو العدو الرئيسي في الوقت الراهن ثم الصين لاحقا، لهذا يجعل المكسيكي هو الهدف. ومن جانبه، بدأ أباسكال ومنذ سنوات يبلور أطروحة مشابهة، حيث يعتبر الهجرة المغربية هي الخطر الحقيقي على الهوية الإسبانية مستقبلا، إذ يختزل الإسلام والعربي والثقافة المشرقية في المهاجر المغربي. وبلور جزء هام من برنامجه السياسي والانتخابي على استعادة الهوية الإسبانية القائمة على الدين المسيحي. ارتباطا بهذا، يريد تغيير العيد الوطني من 12 أكتوبر، الذي يصادف اكتشاف القارة الأمريكية سنة 1492 من طرف كريستوفر كولومبوس الذي أرسلته إيزابيلا الكاثوليكية الى 2 يناير الذي يصادف سقوط غرناطة سنة 1492 كآخر معقل للسلطة الإسلامية في الغرب الأوروبي، وعلى يد إيزابيلا الكاثوليكية.
يلتقي أباسكال مع ترامب في نقطة أخرى، إذ يرى أنصار ترامب أن المكسيكيين يؤسسون مجتمعات داخل المجتمع الأمريكي خاصة في ولايات الجنوب مثل كاليفورنيا وأريزونا وتكساس التي يعتبرونها ولايات مكسيكية انتزعتها واشنطن من المكسيك بالقوة في القرن التاسع عشر. في المقابل، لا يتردد أباسكال بالقول في البرلمان والانتخابات والتجمعات السياسية بأن الدولة المغربية ترسل عشرات الآلاف من الشباب المغري عبر قوارب الهجرة للبقاء في اسبانيا في أفق استعادة الأندلس. ولهذا، يشدد على مواجهة الهجرة المغربية بالدرجة الأولى لأنه يعتبرها خطرا على الهوية والأمن القومي الإسباني على المدى المتوسط والبعيد.
ويستفيد أباسكال من سياسة ترامب الذي يهدد المكسيك برسوم جمركية كبيرة إذا لم يوقف هذا البلد اللاتيني مهاجريه، وينادي بتطبيق السياسة نفسها مع المغرب بفرض الاتحاد الأوروبي رسوما جمركية عالية ووقف برامج الاستثمار والتعاون إذا لم يستقبل مهاجرين. وينادي بتطبيق هذه السياسية على جميع الدول، غير أنه يركز أكثر على المغرب بحكم العدد المرتفع للجالية المغربية في هذا البلد الأوروبي.
العالم دخل مرحلة توتر فكري وديني بعدما قررت جماعة في الغرب استعادة روح الحروب الصليبية على أمل منها بناء ما تعتبره الغرب المسيحي، وهذا يجعل من منطقة جبل طارق فضاء مرشحا للتوتر على طريقة حروب الاسترداد الماضية، ويعيش البرلمان الإسباني فصلا منها بسبب طروحات حزب فوكس أو “ترامب الإسباني” ضد الهجرة المغربية وضد ما يعتبره تاريخيا :مصدر الخطر القادم من الجنوب.