غرناطة، مدينة شرقية في قلب العالم الغربي، تشتهر بالمعلمة التاريخية قصر الحمراء، عنوان حضارة أندلسية شامخة في سجل تاريخ الإنسانية، بل غرناطة هي أكبر من قصر الحمراء، جزء من تقاليد سكانها الظاهرة أو الكامنة في العمق عربية. أحياؤها مثل البيازين وشارع “كالدررياس” المشهور بتيترياس و “مقاهي الشاي” هما أبرز الأحياء و الشوراع العربية في أوروبا، تعيد المرء الى أجواء وفضاءات أندلس العصور الوسطى.
وزائر مدينة غرناطة يقف مشدوها أمام ثقل التاريخ، بفضل توالي حضارات المتوسط عليها من قرطاجية ورومانية وإسلامية ثم مسيحية. وثقل التاريخ يتمثل في ما تمثله للعرب من قمة الحضارة الى الانهيار الذي يعاني منه العالم العربي حتى الآن. وثقل التاريخ يتمثل في السؤال المحير للمؤرخين كيف استطاعت إمارة صغيرة الصمود في قلب أوروبا وحيدة ممثلة للسلطة الإسلامية. وثقل التاريخ يتمثل في أنها تعتبر البداية الحقيقية لتأسيس المفهوم الجديد للغرب القائم على مفاهيم سياسية،
وثقل التاريخ يجعل منها متحفا مفتوحا، إذ كل مكان وكل شارع في المدينة شاهد على حادث حفرت أحداثه في سجل التاريخ، هنا وصلت جيوش المسلمين أول مرة عندما كانت تسمى إلبيليس وفقدت بريقها الذي تميزت به أيام الرومان، و هناك بني أول مسجد، وفي كورال ديل كاربون كان تجار من شتى مناطق المتوسط يعقدون صفقاتهم، وهنالك في ذلك المكان وقع أبو عبد الله محمد الثاني عشر وثيقة تسليم المدينة الى إيزابيلا الكاثوليكية حيث ينتصب تمثال لهذا الأمير. وهذه ساحة بيبرمبلا (باب الرملة) الواقعة وسط المدينة التي جرى إحراق كتب المسلمين (باستثناء الطب) فيها بعد سقوط غرناطة، ومن ذلك التاريخ أصيبت الساحة بلعنة حيث لا توجد مكتبة أو كشك لبيع الكتب والصحف. في هذا الزقاق قد يكون عاش لسان الدين ابن الخطيب، وفي قصر الحمراء عاش الكاتب الأمريكي الشهير واشنطن إرفينغ فترات من حياته الذي ألف كتب وروايات حول غرناطة وجعلها شهيرة في العالم الغربي، وهكذا دواليك، وأخيرا في مرتفع سان نيكولاس في حي البيازين وقف بيل كلينتون في أواخر الستينات عندما كان طالبا يـتأمل عظمة قصر الحمراء وعاد سنة 1997 رئيسا ليقول “غروب الشمس وراء قصر الحمراء أجمل غروب في العالم”.
وطيلة زمن ممتد، جرى اختزال معالم المدينة وأحداثها في قصر الحمراء وكاتدرائية المدينة، قصر الحمراء عنوان لحضارة شامخة تحمل بصمات إسلامية واضحة، وفي المقابل الكاتدرائية، معلمة ضخمة بفضاءاتها وهي رمز من رموز المسيحية. فمعلمتا المدينة تعكسان “روح الشرق والغرب”، وهي خاصية لا توجد في اي مدينة أخرى في أوروبا.
وتقول أليسيا ب وهي موظفة في مكتب السياحة في قلب غرناطة، “كل سائح يأتي عندنا الى المكتب طلبا للإرشادات يسأل عن كيفية الحجز والوصول الى قصر الحمراء ولاحقا كيفية الوصول الى حي تيتيرياس. وتضيف ضاحكة “من قبل كان الجميع يسأل عن قصر الحمراء وعن كاتدرائية المدينة” أما الآن فالسؤال ثنائية هو قصر الحمراء وتيترياس، فالحي أصبح منافسا للكاتدرائية”.
وتصل الى حي البيازين وبالضبط في بدايته من وسط المدينة حيث شارع تترياس، هنا يأخذ الحاضر طابع وعبق التاريخ. أنتونيو ، ث من قسم المحافظة على المآثر التاريخية في المجلس الإقليمي لغرناطة يؤكد للقدس العربي “السر في انتقال السائح من قصر الحمراء مباشرة الى حي البيازين وبالضبط إلى شارع تترياس هو أنه يخرج مندهشا من روعة البناء في قصر الحمراء وعندما يصل الى البيازين يجد نفسه في أجواء الأندلس القديمة: مقاهي عربية على الطراز القديم ومطاعم تقدم مأكولات المغرب وسوريا ولبنان”.
ومصطلح الروعة الذي يستمعله أنتونيو في وصفه قصر الحمراء هو تعبير مختزل لقصائد التغني بهذه المعملة التاريخية. فكم من عربي لم يكن يقدر قيمة الحضارة الأندلسية ومساهمة العرب والأمازيغ في بنائها حتى يزور قصر الحمراء ويقف منبهرا. قصر الحمراء الذي بناه بنو الأحمر في القرن الثالث عشر الميلادي هو عبارة عن مدينة داخل مدينة، فالمدينة كانت بفضل اختلاط لغاتها وثقافاتها ودياناتها وإبداعاتها بمثابة ميتروبوليس “نيويورك وقتها”، وقصر الحمراء بفضاءاته بمثابة مانهاتن الحالية.
حي البيازين الكبير هو أكبر حي عربي تاريخي في مجموع أوروبا. توجد أحياء عربية في أوروبا، أشهرها باربيز في العاصمة باريس وموفمبيك في العاصمة بروكسيل، هي أحياء أوروبية قطنتها الجاليات العربية وأساسا المغاربية خلال الأربعين سنة الأخيرة. لكن الأمر يختلف في حالة حي البيازين وشارع كالدرريا، يتعلق الأمر بأحياء عربية تاريخيا، عاد إليها المسملون بعد قرون. ولعل هذا ما يجعل الهجرة تتخذ مفهوما مختلفا بين اسبانيا وخاصة في الأندلس وباقي العالم الغربي. في دول مثل فرنسا وبريطانيا يتحدثون عن قدوم المهاجرين وفي الأندلس عن “عودة المسلمين”.
حي البيازين أعلنته منظمة اليونيسكو تراثا إنسانيا، مازال يحافظ على أزقته وهندسة منازله التي كانت منتشرة في العهد العربي-الأمازيغي، ويستمر شامخا في التلة المقابلة لقصر الحمراء. تروى عنه أساطير كثيرة، فمنذ الثمانينات مع بدء الهجرة تحول الى مكان استقرار الكثير من العرب والمسلمين وأغلبهم من المغاربة، ويصعب الآن اقتناء منزل في الحي بسبب ارتفاع الأسعار.
ويحكي بعض الإسبان من باب إضفاء مزيد من طابع الغرابة على البيازين أن المغاربة يعودون الى هذا الحي ويقيمون في منازله بحثا عن كنوز أجدادهم التي تركوها عندما جرى طردهم منذ أربعة قرون. وهذه الرواية جزء من المخيال الإسباني، يرددون أن الموريسكيين أخفوا كنوزهم في منازل مختلفة من غرناطة ليعودوا يوما ما، وأنعشتها الروايات الإسبانية المستمدة أحداثها من تاريخ الأندلس وتشهد انتشارا خلال السنوات الأخيرة. والحكاية منتشرة كذلك وسط موريسكيي المغرب في مدن مثل تطوان وشفشاون وطنجة وسلا وفاس الذين يحتفظون بمفاتيح منازل أسلافهم ووثائق عن كنوز مفترضة. ولترويج منازلها في البيازين، كانت وكالة عقارية قد أقدمت على إشهار مثير “تشتري منزلا في أقدم أحياء أوروبا وقد يسحافك الحظ وتعثر في جوف أرضه على كنز موريسكي”.
ويحدث أن تتحول الأسطورة الى واقع من خلال العثور الأركيولوجيين في فترات نادرة على صناديق صغيرة بها أموال أو مجوهرات ومخطوطات من تلك الحقبة. ويبدو هذا عادي للغاية، فغرناطة احتضنت آخر مسلمي الجزيرة الإيبيرية الذين التحقوا بها عندما بقيت المملكة الوحيدة ضمن ممالك الطوائف التي انقرضت واحدة تلو الأخرى، وكل عائلة كانت تصل كانت تخفي في الأرض ما تمكنت من حمله.
الحي يحافظ على طابعه العربي، بل ويعمد الكثير من الإسبان الى إصلاح واجهات المنازل لاستعادة الهندسة العربية. وأنت تتجول في حي البيازين يخيل لك أنك عدت قرونا وأن من يقطن هذه المنازل هم الذين وردت أسماءهم في “الإحاطة في أخبار غرناطة” للسان الدين ابن الخطيب، وقتها يصبح كتاب هذا الشاعر والأديب الموسوعي أحسن من دليل سياحي عصري وإن كان رقميا في شبكة الإنترنت.
لم نعثر على مغربي عثر على كنز في حي البيازين، لكن المغاربة يعتبرون كنزهم الحقيقي هو تحويل شارع كالدررياس والمعروف بتترياس كذلك الى فضاء تجاري عربي وإسلامي بامتياز أكسب غرناطة بعدا أسطوريا آخر أو جعلها تستعدي جزءا هاما من مكونها التاريخي الذي افتقدته بسبب التعصب الذي ساد في مرحلة الوسيط.
وحكاية هذا الشارع مثيرة، فقد كان مهمشا ويقطن فيه مدمنو المخدرات، وقام المغاربة منذ بداية الثمانينات، تاريخ بدء الهجرة المغربية الى اسبانيا، بشراء مباني ودكاكين الشاعر وتحويلها تدريجيا الى مقاهي مختصة في الشاي ومطاعم ولاحقا افتتاح متاجر لبيع الصناعة التقليدية القادمة من مختلف مناطق العالم العربي والإسلامي وإن كانت الهيمنة للصناعة التقليدية المغربية والسورية، هذه الأخيرة خفت وتراجعت بسبب الحرب الأهلية التي تعاني منها البلاد منذ أكثر من ثلاث سنوات.
ويقول كمال النووي، وهو فنان مغربي مقيم في المدينة منذ الثمانينات “يفتخر مغاربة هذا الشارع بتحويله من فضاء مهمش الى معلمة سياحية أدرجته البلدية منذ سنوات في الدليل السياحي”. ويساعرع كل مغربي بسرد حكايته وكيف ساهم في بناء هذا الفضاء، ويصل الحماس بالبعض في السرد والحديث عن تحديات وكأن الأمر يتعلق “بفتح جديد”.
وفي إشهارها لحي البيازين وبالضبط شارع كالدررياس، تروج وكالات السياحة “كالدرريا. زوروا مراكش بدون السفر الى المغرب” أو “كالدرريا: نعود بكم الى غرناطة الأندلسية”. وأنت تتجول وسط حي كالدررياس تتفاجئ، كل أسماء المتاجر عربية وأغلب ملاكيها من المغرب، أسماء المتاجر والمطاعم و”حانات “الشاي” كما يحول للبعض تسميتها مطعم سلطان أو الرياحين أو مقههى زرياب، تقدم الشاي وحلويات أندلسية، وعندما يعزف بعض العازفين الموسيقى الأندلسية في مقاهي الشاي، وهو تقليد شبه يومي، يفعل الطرب مفعوله الشبيه بمفعول الخمر.
وأنت تتجول في الشارع أو تحتسي فنجان شاي، فجأة يرتفع صوات الآذان في مسجد التقوى الموجود في “تيترياس”، يترك الكثير من التجار محلاتهم لتأدية الصلاة، مشهد مشابه لما يجري في الأسواق التقليدية العربية، ولا يوجد له مثيل في مجموع أوروبا.
ولعل شارع كالدررياس يبرز مفارقات العالم العربي، في وقت يتجه فيه أثرياء الخليج الى اقتناء منازل فخمة في كبريات العواصم مثل لندن وباريس وروما، نجح مهاجرون بسطاء في تحويل شارع كان مهمشا الى أهم شوارع اسبانيا بعدما منحوه بعدا رائعا وأعادوا له تاريخه، لم يحدث هذا باستثمارات عائدات البترول بل بالعمل اليومي.
وتقول الفنانة التشكيلية نادية بولعيش المقيمة منذ سنوات في المدينة “ما ينقص هذه الظاهرة هو ظهور فنانين وروائيين وتشكيليين وشعراء يتغنون بهذه الأندلس الصغيرة في إبداعات تبقى للأبد”.
وبدأت ظاهرة حي كالدرريا تتمدد نحو أحياء أخرى، وبدأ حي القيسارية وسط المدينة يتحول الى نسخة من تيتيرياس ، كما تمددت الظاهرة الى شارع إلبيرا وصولا الى الباب التي تحمل الإسم نفسه، وهي باب عربية شبيهة بأبواب المدن المغربية خاصة مكناس.
وبنوع من المرح الممزوج بالافتخار، يقول المغاربة المتواجدين في هذا الحي “أجدادنا بنوا قصر الحمراء، ونحن شيدنا معلمة تيترياس”.