تعيش بلاد المغرب، أو البلدان المغاربية، مرحلة دقيقة غير مسبوقة في تاريخها، يمتزج فيها الخوف بالأمل، إذ تعرف، حسب الحالات، اضطرابا وتوزعا ومخاوف، مع بوارق أمل. الوضع في ليبيا يعرف انقساما وتهديدا للدولة الوطنية، والجزائر تعرف حراكا كما لو هو مخاض لم ينته إلى وضع، أثار من الآمال في بدايته، بقدر ما يثير من المخاوف. والوضع الاجتماعي في المغرب يعرف حدة وتوترا. وإذا كانت كل من تونس وموريتانيا قد شقتا طريقهما نحو الديمقراطية، وكسرتا لعنة الحكم الأبدي والمطلق، فإنهما تتأثران من تداعيات الوضع في المنطقة، سواء تعلق الأمر بالأمن أو الاقتصاد.
رغم التوتر الذي تعرفه المنطقة فهي لم تُفض إلى وضع ميؤوس منه، فهي تظل منطقة غنية، بمواردها الطبيعية المتنوعة، وطاقاتها الشبابية، وبنية تكنوقراطيه متميزة، وتفتح ثقافي، وموقعها الجغرافي ما بين أوروبا وافريقيا. مؤهلاتها مجتمعة، تفوق مؤهلات تركيا، لكن أين تركيا، وأين أي دولة من الدول المغاربية؟ وكلمة السر، هنا، هي مجتمعة، لأن واقع الحال أن البلدان المغاربية تهدر طاقاتها الكامنة بفُرقتها.
لا يمكن الانتقال من وضع محتقن إلى آخر، إلا بتغيير المرجعية أو البراديغم، ولئن كانت الدولة الوطنية ضرورية غداة الاستعمار، وبالنظر إلى عدة معطيات موضوعية، فإنها لم تعد قادرة على أن ترفع التحديات القائمة وتستجيب لتطلعات شعوب المنطقة وآمال شبيبتها. واللافت أن الشعوب في خضم ما تعرفه المنطقة من دينامية، عبّرت عن توقها للوحدة. الوحدة ضرورة لا مندوحة عنها للخروج من المأزق الذي تعرفه المنطقة، ولكن كيف يتم تحقيقها؟ إذ ليس أسهل من الإجهاز على تطلعات مشروعة من خلال التعابير العاطفية، أو الإعلانات المرتجلة، مما عرفته منطقتنا ولم يُكتب له أن يُعمر. فوضع الصفوة ليس أن تكون صدى للشعوب، ولكن أن تترجم تطلعاتها من خلال رؤية وميكانزمات، كما الطبيب لا يكتفي بترديد تطلعات المشتكي، وإنما يُشخّص الوضع، ومن خلال التشخيص يجري العلاج. لابد من عملية جرد وتشخيص للوضع، ولا بد من جرأة كذلك، والجرأة تثير الغضب دوما، و إذا كانت الجرأة ضرورية، فإن من المفهوم ألا تكون دوما علنية.
قضية الصحراء، هي من العراقيل الكبرى للوحدة المغاربية، التي تَوزّع المغرب والجزائر بشأنها، وعرفا حدا من الجفاء غير مسبوق، تراوح لفترة بين قطع العلاقات الدبلوماسية ثم إغلاق الحدود البرية، وهو القرار الساري إلى الآن. لكن هل قضية الصحراء هي سبب التوتر بين المغرب والجزائر؟ أم هي تعبير عن انعدام الثقة بين البلدين؟ هل هي سبب أم نتيجة؟ لابد من قراءة دقيقة لملف الصحراء، منذ نشأة النزاع وسياقه واستحضار كل الجوانب التي تكتنفه والتي ما تزال في بعضها مُعتمة. الملف شائك ومعقد. وإذا كان بؤرةً للتوتر فلمَ لا يكون مدخلا للوحدة، مثلما كان يقول المرحوم عبد الحميد مهري الأمين العام السابق لجبهة التحرير، أو أن ينتقل من سبب فصل إلى أداة وصل، حسب المؤرخ مصطفى بوعزيز، الذي تعيش أسرته موزعة بين المغرب والجزائر، من خلال ما طرحه من تطابق الانتماء المحلي مع الوطني فالإقليمي. وطبعا لكي يكون كذلك، لابد أن يكون الحل مُرضيا لكل الأطراف، أو على الأقل أن يوضع في السكة التي من شأنها أن تُذوِّب الخلافات بين الأطراف جميعها.
والحل لا يمكن أن يكون إلا من المنطقة. الأمم المتحدة أسهمت في التخفيف من التوتر، ولكنها لم تستطع أن تحل المشكل، ولن تستطيع، لكن الحل يفترض حسن النية، ويفترض كذلك عدم شيطنة أي كان. نعم.. فيما أقول كثير من العموميات بالنظر للطبيعة الحساسة للموضوع، وكنت دوما أنأى عن الخوض فيه من هذا المنبر، ولكن إيماني بالوحدة المغاربية، جعلني أجرؤ على عرضه، في هذه الظرفية، لأنه محدد لمسار المنطقة، فإما أن تسلك طريقا تستجيب فيها لتطلعات شعوبها، وإما أن يستفحل الوضع إلى مزيد من الفُرقة والتشتت. الرائد لا يكذب أهله كما ورد في الأثر، ولا يمكن من موقعنا كمثقفين وأصحاب رأي، أن نكذب ونخاتل أو نستتر. المرجعية التي أأتمُّ بها هي الوحدة المغاربية، أسوة بأبناء المنطقة جميعهم، لا يمكنني بهذا الصدد، وللموضوعية، أن أضرب صفحا عن التضحية الجسيمة التي قدمها الشعب المغربي من أجل الوحدة، وفي الوقت ذاته لا يمكن أن أهزأ بالأوضاع المزرية التي يعيشها إخواننا في المخيمات. ولابد من التذكير بالتوجه الوحدوي للأخوة الصحراويين، في محطات عدة من التاريخ الحديث للمنطقة، كما أن كل تسوية لا يمكنها ألا تأخذ بعين الاعتبار مصلحة كل من الجزائر وموريتانيا.
ليس في ما أقدمه جديدا، ولكن هل توافر حسن النية دوما؟ حسن النية في الوحدة المغاربية، التي من شأنها أن تُذوّب الخلافات، أم أنها ظلت شعارا ليس غير، مع خطابات في المناسبات يدبجها كتبة الدواوين، عن غير إيمان. لم يعد ذلك ممكنا. مثلما لم يعد ممكنا التستر عن أسباب الجمود الذي يحول دون تحقيق الوحدة، وضرورة التفكير في تجاوز معوقاتها، في أناة وتبصر، بعيدا عن الأضواء.