يرافق ملف مفاوضات النووي الإيراني في منطقة الشرق الأوسط قلق كبير لدى الدول الخليجية والكيان الإسرائيلي، ولم يعد الأمر يتعلق بالقلق فقط من القنبلة النووية الإيرانية وإنما بمستوى التسلح وخاصة القدرة الصاروخية لطهران. وهذه التطورات بدأت تدفع نحو إقامة “ناتو عربي” قد يكون ملحقة للحلف الأطلسي طالما أن إيران تعد جزء من التحالف الصيني-الروسي.
وطيلة العقدين الماضيين، اهتم العالم بالملف النووي الإيراني لأن من شأنه أن يخلق تغييرا في منطقة الشرق الأوسط، ذلك أن توفر دولة على قدرة عسكرية نووية يعني تغيير قواعد اللعبة لاسيما إذا توفرت على السلاح النووي التكتيكي. ويدرك الغرب صعوبة استعمال إيران القنبلة النووية إذا حصلت عليها، لكنه يتخوف من نجاح إيران في الحصول على السلاح النووي التكتيكي.
وكان العالم قد استبشر بالاتفاق النووي المتعدد الأطراف الذي تم التوصل إليه خلال أبريل/نيسان 2015 وقعته إيران مع الدول الست الكبرى وهي الصين والولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا، وهو اتفاق سمح لطهران بالحق في الطاقة النووية السلمية، وفتح آفاق جديدة للدبلوماسية العالمية. غير أن هذا الاتفاق لم يدم كثيرا بسبب قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلغاءه لأنه لا يرغب في رؤية دولة شرق أوسطية وإسلامية وبالأخص إيران تتحكم في الطاقة النووية وإن كانت طاقة نووية سلمية.
وتبرز كل المعطيات الى فشل التوصل إلى اتفاق نووي جديد رغم ماراثون المفاوضات الحالية، ورغم وجود جو بايدن في البيت الأبيض وهو الرئيس الذي كان نائبا للرئيس باراك أوباما عندما تم التوصل إلى اتفاق 2015.
وبالموازاة مع صعوبة نجاح مفاوضات البرنامج النووي نظرا لتشبث إيران بحقها في التخصيب النووي وشروط الغرب، يوجد مسلسل آخر يتبلور بشكل سريع وهو إقامة حلف عسكري بين إسرائيل والدول العربية في الشرق الأوسط لمواجهة ما يفترض “السياسة التوسعية لإيران” في المنطقة. وتتسارع الخطوات بعدما نجحت في خلخلة عدد من قواعد اللعبة بنجاحها في التغلغل في لبنان عبر حزب الله وفي فلسطين عبر حماس نسبيا وفي اليمن عبر الحوثيين وتنسيقها الكبير مع العراق.
ولا يمكن فصل التكتلات العسكرية الجارية في الشرق الأوسط والمزمع تنفيذها في المستقبل بمعزل عن مصير المشروع النووي الإيراني. ذلك أن إيران عازمة على تنفيذ مشروعها لسببين:
في المقام الأول، قدرتها على الاستمرار في المقاومة رغم الحصار الاقتصادي الذي يفرضه الغرب عليها. وتتجه إيران أكثر نحو الصين وروسيا لاسيما بعد الاتفاق التاريخي معها السنة الماضية. ويساعد ما يجري في العالم من تبلور نظام عالمي جديد إيران على الشعور بنوع من الارتياح. وكانت إيران قد طلبت الأسبوع الماضي الانضمام الى مجموعة البريكس الاقتصادية التي تضم كل من الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا.
في المقام الثاني، تدرك إيران أن استمرارها في المشروع النووي لن يجعل الولايات المتحدة تهاجمها، فمن جهة، عملية غزو على شاكلة ما تعرض له العراق سنة 2003 من القوات الأمريكية والبريطانية عمل مستحيل، ومن جهة أخرى، القصف الجوي ولو بالسلاح النووي التكتيكي لن يضع حدا لبرنامجها النووي. كما تدرك إيران استحالة مهاجمة إسرائيل لها ولو بالسلاح النووي.
وإلى جانب المشروع النووي، يبقى التخوف الحقيقي لكل من دول الخليج أساسا الإمارات العربية والسعودية بالدرجة الأولى ثم إسرائيل هو الصناعة العسكرية الإيرانية التي تخطو خطوات كبيرة وخاصة على مستوى صناعة الصواريخ والطائرات المسيرة. وتعد إيران في الوقت الراهن القوة الصاروخية الأولى في الشرق الأوسط، لاسيما وأن الحرب الحالية والقادمة تعتمد أساسا على الصواريخ والطائرات المسيرة.
وتستغل إسرائيل الخوف الخليجي من إيران لتعقد تحالفات عسكرية أحادية ثم جماعية مع الخليج. وكانت البداية مع الاتفاقيات الأحادية مع كل من الإمارات والبحرين، التي بدأت سنة 2020. وتطورت الى مشروع متعدد جرى الاتفاق عليه خلال منتصف يونيو الماضي، ويتجلى في نشر منظومة رادارات في عدة دول عربية بشكل علني أو غير علني ومنها البحرين والإمارات تحت مبرر مواجهة “التهديدات الإيرانية”. كما تستغل إسرائيل امتناع الولايات المتحدة عن تزويد دول الخليج بأنظمة متطورة مضادة للصواريخ مثل باتريوت ونظام ثاد.
في الوقت ذاته، تسعى إسرائيل وبطلب من دول المنطقة كخطوة مقبلة الى بناء تكتل عسكري شبيه بالحلف الأطلسي سيضم عدد من دول الشرق الأوسط، وسيكون الجناح الشرقي للحلف الأطلسي وتحت إشراف الولايات المتحدة. في هذا الصدد، قبل أيام، نشرت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية خبرا يتعلق بلقاء مسؤولين عسكريين أمريكيين مع نظرائهم في كل من إسرائيل والأردن ومصر وعدة دول خليجية. ونسبت الصحيفة إلى مصدر مطلع القول إن الاجتماع عقد في مدينة شرم الشيخ المصرية، وبحث آليات سبل التنسيق ضد تنامي قدرات إيران الصاروخية وبرنامجها الخاص بالطائرات المسيرة. وليس من الغريب كيف يريد الغرب فرض قيود على الصناعة العسكرية الإيرانية في مجال الصواريخ والطائرات المسيرة.
ولا يعد حلف شرق أوسطي عسكري بمشاركة إسرائيل فكرة جديدة في المنطقة، بل طرحه الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما ثم شدد عليه خلفه دونالد ترامب ويحييه من جديد الرئيس الحالي جو بايدن. ويهدف هذا الحلف إلى ثلاثة أهداف رئيسية وهي:
أولا، تسعى الولايات المتحدة الى جعل دول الشرق الأوسط تتولى أمنها القومي دون الاعتماد على البنتاغون. وكانت البيت الأبيض قد أخبر دول المنطقة سنة 2011 بأن الأولوية لواشنطن ستكون منطقة آسيا نظرا لارتفاع قوة الصين، وأصبح الوضع ملحا الآن بعد الحرب الروسية ضد أوكرانيا لأن الحرب الباردة مع الصين وروسيا لن تسمح لواشنطن بالتواجد في كل الجبهات.
ثانيا، إدماج إسرائيل في منظومة عسكرية شرق أوسطية سيجعلها تستفيد من الاستثمارات العربية في مجال السلاح، بحكم أن جزء هام من السلاح سيكون من الصنع الإسرائيلي لاسيما المنظومات العسكرية المضادة للصواريخ والطائرات المسيرة. كما ستجني إسرائيل ربحا سياسيا وهو الاندماج التام في الشرق الأوسط بل ستصبح زعيمة الدفاع عن بعض الدول العربية وخاصة الملكية منها.
ثالثا، إقامة حلف عسكري سيعني الدفاع المشترك، حيث ستكون الدول العربية كلها قواعد متقدمة لحماية إسرائيل بشكل غير مباشر في حالة اندلاع حرب بين إيران والحلف. ولهذا، تسعى إسرائيل الى نشر منظومة مضادة للصواريخ في الدول الخليجية وتركز أساسا على العربية السعودية. ويقول خبير عسكري “تخيل لو كانت أربع قواعد منظومة دفاع صاروخية في الأراضي السعودية، ستعمل تقريبا كلها على اعتراض أي صاروخ موجه الى ضرب إسرائيل، طالما أن الأمر يتعلق بالدفاع المشترك، أي التحرك الجماعي لمواجهة أي خطر”.
في غضون ذلك، لم يعد الدفاع المشترك في الشرق الأوسط يتعلق التقدم أو الفشل في المفاوضات الخاصة بالمشروع النووي الإيراني بل بكيفية مواجهة مخاطر القدرة العسكرية المتطورة لإيران في مجال الصواريخ الهجومية والطائرات المسيرة، وهذه قدرة عسكرية لا تخضع للمفاوضات.