فاز حزب المحافظين في الانتخابات التشريعية التي جرت في بريطانيا الخميس من الأسبوع الجاري بالأغلبية المطلقة في البرلمان. وهو فوز يحمل الكثير من الرسائل السياسية داخليا وجيوسياسية خارجيا خاصة الأخيرة، حيث تلعب بريطانيا المقامرة أو الروليت الروسي بين النجاح واستمرارها دولة ضمن الدول الكبرى أو التراجع والانكماش.
وبغض النظر عن القضايا الداخلية المرتبطة، يبقى العنوان البارز لهذه الانتخابات هو تمهيد الطريق أمام زعيم المحافظين بوريس جونسون لتطبيق بريكست، أي الخروج من حظيرة الاتحاد الأوروبي خاصة بعدما أصبحت قضية هذا العقد في بريطانيا وربما أبرز قضية الجيل الحالي. وكتبت جريدة “لوموند” في افتتاحيتها يوم السبت تعليقا على هذه الانتخابات “تعد بمثابة استفتاء بريكست ثان، البريطانيون يرغبون في الانسحاب من أوروبا”.
وروج بوريس جونسون لأطروحة الإستبلشمنت المحافظ المتغلغل في الدبلوماسية والجيش والاستخبارات ورجال الأعمال، ومفادها أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيجعلها قوية ومتماسكة أكثر وستستعيد الكثير من حضورها الدولي بعدما ستتخلص من البيروقراطية التي هيمنت على عمل مؤسسات البرلمان الأوروبي من مفوضية وبرلمان ومجلس أوروبا. لكن هل هذه الانتخابات ستجعل بريطانيا أكثر قوة؟
ويهيمن قلق كبير على المؤسسة البريطانية يتجلى في الخوف من فقدان حضورها العالمي بعدما كانت حتى الأمس القريب صانعة القرار العالمي. وعمليا، تأمل الخريطة العالمية، سيتضح كيف صنعت بريطانيا الكثير من دول العالم عبر الاستعمار، هي التي قسمت شمال أمريكا، وقسمت الدول المنبثقة عن الهند مثل باكستان وبنغلادش، وصنعت أكثر من دولة خليجية علاوة على صنع نصف القارة الافريقية.
وفي الوقت الذي تبحث فيه لندن عن تقوية حضورها، تحضر مجددا قضية اسكتلندا التي ترغب في الاستقلال عن المملكة المتحدة وهي نقطة ضعف حقيقية. وهذه المرة هناك عناصر لا تصب في صالح لندن، إذ تتحجج اسكتلندا برغبتها البقاء في الاتحاد الأوروبي علاوة على ارتفاع نسبة الراغبين في الاستقلال عن بريطانيا بعدما حصل الحزب القومي الاسكتلندي المدافع عن الاستقلال على 48 مقعدا من أصل 59. وهذه النتيجة تنعش آمال القوميين في استفتاء تقرير مصير جديد. وإذا كانت الأوضاع هادئة بين اسكتلندا ولندن، فلا يمكن استبعاد حدوث توتر مستقبلا في ظل ظهور جيل جديد من الاسكتلنديين الراغبين في الاستقلال وسيعملون بشتى الوسائل على تحقيق هذا الحلم ولو اقتضى الأمر بنوع من العنف الذي سيؤدي إلى اللاستقرار. وتعد تصريحات زعيمة هذا الحزب ورئيسة حكومة اسكتلندا واضحة بقولها بعد الانتخابات “لا نرغب في حكومة المحافظين بزعامة بوريس جونسون، ولا نرغب في بريكست ونتطلع إلى اسكتلندا متحكمة في مستقبلها من دون طلب من أي سياسي في ويستمنستر”. وتناولت جريدة ّ”ذي ناشيونال” الصادرة في اسكتلندا وتعد لسان القوميين ضرورة الاستقلال بعدما منح الشعب لحكومة اسكتلندا تفويضا في هذه الانتخابات لكي تجري استفتاء تقرير المصير من جديد على غرار سنة 2014 أبت أو قبلت لندن. ويعتبر الاسكتلنديون هذه الانتخابات منعطفا في مطالبهم نحو الاستقلال.
الرهان على الكومنولث
رغم أفول الاستعمار، وعكس جميع باقي الدول، حافظت بريطانيا على علاقة خاصة بمستعمراتها السابقة وهي رابطة الكومنولث، حيث تتزعم عددا من الدول في مختلف القارات من أستراليا إلى افريقيا إلى كندا وآسيا بل البعض منها يعود إلى ملكة بريطانيا للمصادقة على بعض القرارات. وتنوي بريطانيا إعطاء دفعة قوية للكومنولث وهيكلتها. وعمليا، ركزت مختلف الدراسات الاستراتيجية بعد بريكست على مخططات لندن بشأن إعطاء دينامية للكومنولث. وقد تنجح إلى حد ما، خاصة إذا تحولت إلى ممثل لمصالح هذه الدول مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. لكن في الوقت ذاته، هناك دول تتجه نحو زعامة إقليمية ولن تبقى تحت المظلة البريطانية. فالرهان على بريكست يحمل ربحا شبه مضمون ولكنه سيكون ربحا محدودا نظرا للتطورات التي تسجلها العلاقات الدولية وأساسا التغيير الحاصل في بوصلة المصالح.
الانتصار الفرنسي-الألماني
بريكست هو خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، ويحمل عبارة أخرى وهي إعادة صياغة العلاقات مع الاتحاد الأوروبي. كانت أوروبا في البدء حريصة على بقاء بريطانيا لكنها الآن لا تأسف كثيرا على مغادرتها العائلة البريطانية، بل تعتبرها دول مثل فرنسا وألمانيا الفرصة التاريخية لبناء الاتحاد الأوروبي على أسس متينة. فقد اعتبرت برلين وباريس لندن عائقا أمام البناء الأوروبي، فقد عرقلت بناء دبلوماسية قوية وانجرت دائما إلى الصف الأمريكي ومنها حرب العراق سنة 2003. وأقامت متاريس أمام وحدة عسكرية أوروبية سواء من خلال التنسيق بين الجيوش أو التصنيع المشترك. ورفضت من الأساس فكرة العملة الموحدة اليورو والوحدة النقدية ولم تنخرط في اتفاقية شينغن حول تنقل المواطنين ومنهم المهاجرون بكل حرية.
وأمام الخروج المرتقب لبريطانيا نهاية شهر كانون الثاني/يناير المقبل، ستكون فرنسا وألمانيا أمام فرصة تاريخية وهي إعادة هيكلة الاتحاد الأوروبي على أسس جديدة. الخروج البريطاني يعني غياب دولة كانت دائما تعارض مسلسل الوحدة المؤسساتية للاتحاد الأوروبي ولا ترى مستقبل القارة بدون الحليف الأمريكي، بينما ترى باقي الدول وأساسا فرنسا وألمانيا وبلجيكا وإيطاليا واسبانيا أن أوروبا قادرة على التحول إلى قوة محورية في العالم رفقة الكبار، الصين وروسيا والولايات المتحدة. ويتوقع الكثير من الخبراء، أنه بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، سنرى اتحادا متماسكا متناسقا في مواقفه خاصة بشأن السياسات الخارجية والدفاع. وقد يحقق الاتحاد الأوربي في مسيرة الوحدة خلال الخمس سنوات المقبلة أكثر مما حققه خلال العشرين سنة الماضية.
عودة الثنائي لندن-واشنطن
وهكذا، تربط بريطانيا مصيرها بمصير الولايات المتحدة، فقد عادت هذه الرابطة إلى قوتها التي كانت متينة منذ الحرب العالمية الأولى، وضعفت نسبيا بعد سقوط جدار برلين ولاسيما بعد انخراط لندن في السياسة الأوروبية. ويعد بريكست في العمق عملية إعادة الروابط الأنكلوسكسونية، حيث تعتقد لندن وواشنطن في احتمال تشكيلهما قطبا قادرا على إعادة القوة إلى الغرب في مواجهة كل من روسيا وأساسا الصين التي تهدد عرش الغرب على العالم. ولهذا كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أبرز المهنئين لبوريس جونسون على فوزه البين في هذه الانتخابات، ويعتبر أن هذا سيساعد على توقيع اتفاق تجاري أحسن بكثير من أي اتفاق ستوقعه لندن مع الاتحاد الأوروبي. وهناك تناغم قوي بين الحزب الجمهوري والمحافظين وكذلك الإستبلشمنت في البلدين، إذ ترى الولايات المتحدة في بريطانيا خير حليف مستقبلا في مواجهة الصين وروسيا بعدما بدأت ترصد بوادر تفهم من طرف باريس وبرلين للسياسة الروسية والصينية.
ونظرا للتطورات المتسارعة عالميا، يبقى بريكست بمثابة مقامرة روسية، قد تستعيد بريطانيا بفضله الكثير من قوتها السابقة، وقد تصبح لاعبا ثانويا في المسرح الدولي رهينة بمصالح ومزاج من يوجد في البيت الأبيض.