اعتادت الصحافة الدولية في الغرب وكذلك العربية بالخصوص ترديد بعض التعابير ذات الحمولة السياسية الكبيرة وإن كانت لم تعد تساير التطورات الجارية في المسرح السياسي العالمي، ومنها تعبيرين وهما: “الغرب لن يقبل” ثم “المنتظم الدولي يرفض” أو في صيغة أخرى “المنتظم الدولي سيفرض”. والواقع أن الاستمرار في استعمال مثل هذه التعابير يعكس الشعور المسبق بالهزيمة وعدم المبادرة لاسيما في العالم العربي بينما تخلصت منها ثقافات سياسية أخرى.
وعلاقة بالمنتظم الدولي، اعتادت وسائل الإعلام الغربية عند كل أزمة توظيف تعبير “المنتظم الدولي” لإبداء الرأي وكأنه إجماع حول بعض القضايا المطروحة في الأجندة الدولية وتستأثر بانتباه الرأي العام الدولي. وهكذا نسمع “المنتظم الدولي يرفض”، في إشارة الى قرار سياسي اتخذته دولة معينة ولا يرضي دول في الغرب مثل حالة المشروع النووي الإيراني. ثم نجد “المنتظم الدولي سيفرض”، استعدادا لتبرير قرار ما سيتخذ في قضية هامة.
وعودة الى الأحداث الدولية، سنجد في حرب العراق أنه جرى الإفراط في استعمال “المنتظم الدولي يرفض استمرار صدام حسين” أو “المنتظم الدولي سيفرض آلية نزاع أسلحة الدمار الشامل”، في تلميح الى الحرب الاستباقية. واستمرارا في أجواء الماضي، سنجد وقتها أن غالبية العالم كانت ترفض الحرب ضد العراق بما فيها دول من الغرب مثل فرنسا وألمانيا ودول شمال أوروبا دون الحديث عن الصين وروسيا ومعظم دول أمريكا اللاتينية. لقد اختصر الغرب الأنجلوسكسوني المنتظم الدولي في لندن وواشنطن وتماهت معه وسائل الإعلام لاسيما الأنجلوسكسونية التي لديها تأثير كبير في العالم.
لم يكن هناك إجماع في العالم حول قضايا معينة، لكن هيمنة الولايات المتحدة على مجلس الأمن الدولي، في وقت كانت روسيا تستعيد أنفاسها وتلتزم الصين “التقية السياسية” لبناء قوتها، علاوة على توظيف الغرب لآليات منها صندوق النقد الدولي كأداة للضغط، جعل الاعتقاد يسود بأن الغرب هو المنتظم الدولي.
وخلال الحرب الروسية ضد أوكرانيا، تراجعت قوة تعابير “الغرب يرفض” و”المنتظم الدولي يفرض” لأن العالم انقسم الى ثلاثة أقسام، الأول وهو الغرب الكلاسيكي، ثم الصين وروسيا وبعض الدول التي تدور في فلكيهما، بينما عشرات الدول إن لم تكن الأغلبية قد فضلت الحياد أو المشاركة في التصويت على قرارات غير ملزمة. ويعود هذا أساسا الى فشل الغرب في تجييش باقي الدول ضد روسيا رغم خرق موسكو للقانون الدولي بغزو دولة أخرى، عكس ما فعل في الحرب العراقية وباقي الأزمات الأخرى ومنها محاربة الإرهاب بعد تفجيرات 11 سبتمبر الإرهابية.
لقد تخلصت عدد من الدول والمناطق في العالم من هذا النوع من الثقافة بسبب تطورها الديمقراطي، حيث أصبحت تمتلك نسبة هامة من قرارها السيادي مثل حالة أمريكا اللاتينية، أو دول تدافع عن استقلاليتها بقوة مثل حالة تركيا وإيران وأندونيسيا. وتستمر هذه الثقافة أساسا في العالم العربي بما في ذلك في صفوف اليسار الراديكالي. ويبقى السبب وراء استمرار هذه الثقافة السياسية الدالة على نوع من الخنوع وتصنيف الغرب وأساسا الولايات المتحدة بأنها القدر المحتوم الذي لا يمكن تجاوزه الى عاملين، وهما:
في المقام الأول، الاعتقاد وسط الطبقة السياسية والمثقفة والإعلامية في العالم العربي في استمرار حماية الغرب وأساسا واشنطن للأنظمة العربية، وبالتالي لن يتغير أي شيء دون ضوء أخضر من البيت الأبيض. وكان هذا الشعور مسيطر بدوره في أمريكا اللاتينية غير أنه جرى التخلص منه تدريجيا وامتلكت شعوب المنطقة بشكل كبير قرارها السياسي، حيث يتمظهر ذلك في التناوب السياسي-الأيديولوجي على الحكم ومحاكمة عدد من رؤساء الدول ثم الاستقلالية الكبيرة في السياسة الخارجية.
وفي المقام الثاني، بسبب الواقع الذي فرضه الغرب وخاصة الأنجلوسكسوني في قضايا رئيسية شغلت الرأي العام العربي منذ عقود وهي معارضته الغريبة لحل الصراع العربي-الإسرائيلي وخاصة القضية الفلسطينية، ثم الحرب التي شنها ضد العراق وخاصة الثانية سنة 2003 وملفات أخرى مثل تدخل الحلف الأطلسي في ليبيا للإطاحة بنظام معمر القذافي وإزاحة الرئيس حسني مبارك.
وهكذا، نجد عند كل أزمة أو تطور في القضية الفلسطينية أو العربية يهرع المسيرين العرب الى واشنطن للحصول على الرضى أو الاستشارة. وعاش الرأي العام العربي خلال الأسبوع الأخيرة فضيحة حقيقية عندما سلمت السلطة الفلسطينية الرصاصة التي تم بها اغتيال الصحفية شيرين أبو عاقلة الى الولايات المتحدة، هذه الأخيرة بحكم مراعاة توازناتها في الشرق الأوسط أفرغت القضية من محتواها السياسي والإجرامي الذي وضع إسرائيل في موقف حرج وخففت الضغط على تل أبيب بقولها أنه لا يمكن تحديد نوعية الرصاصة.
لم يكن هناك منتظم دولي بمعنى الكلمة في السابق إلا في حده الأدنى وفي حالات نادرة جدا، وعادة ما يكون تعبيرا عن رغبة الغرب. وبعد الحرب الروسية ضد أوكرانيا وما حملته من تقسيم العالم وتأسيس عالم متعدد الأقطاب، لم يعد الغرب يمتلك القوة لكي يرفض واقعا أو يرفض واقعا في القرارات الدولية الكبرى إلا في عقول بعض السياسيين والمثقفين العرب أساسا. لقد اتخذ الغرب قرارات ضد روسيا باسم المنتظم الدولي، وعليه، هل انخرطت دول العالم فيه؟ بطبيعة الحال لا.
يعيش العالم منعطفا هاما خلال السنوات الأخيرة، وكانت البداية مع جائحة كورونا وتعاظمت مع الحرب الروسية ضد أوكرانيا. ومن النتائج المترتبة عن هذه الأحداث هشاشة تعابير “المنتظم الدول” أو “الغرب يرفض”، فقد تخلصت منها دول وثقافات، وحان الوقت للواقعية السياسية في العلاقات الدولية والتي تبدأ ب “العالم متعدد الأقطاب والمواقف” و “لم يعد الغرب يرفض أو يفرض”.