أقدمت الولايات المتحدة فجر 24 نوفمبر 2013 على التوقيع على اتفاق جنيف ضمن السداسية مع طهران بشأن البرنامج النووي الإيراني، وهذا التوقيع يشكل خطة أخرى في التفكير الاستراتيجي لواشنطن تجاه الشرق الأوسط أصبحت فيه العربية السعودية الخاسر الأكبر على مستويات متعددة خاصة في ظل تخبطها العشوائي دبلوماسيا واعتقادها بأزلية “الإتفاقية غير المكتوبة للملك عبد العزيز وروزفلت” في فبراير 1945.
وتعتبر الولايات المتحدة صانعة قرار جنيف بشأن البرنامج النووي الإيراني بفضل المفاوضات السرية مع الإيرانيين على هامش الرسمية في جنيف، وبحكم أن موسكو وبكين لا تتبنيان موقفا صلبا بينما مواقف المانيا وبريطانيا تسير في ركب واشنطن، وتنفرد فرنسا بموقفها الراديكالي الذي يجعل منها ناطقا مباشرا باسم مصالح العربية السعودية وإسرائيل. وتفشل باريس في مسعاها هذا، مما يدل على تراجع نفوذها الدولي.
وتقف عوامل متعددة وراء قرار واشنطن بالرهان على الحوار مع إيران بدل الرهان على الحل العسكري الذي تحمست له إسرائيل والعربية السعودية خاصة الأخيرة التي عرضت، كما تشير معلومات غير مؤكدة، على البيت الأبيض تمويل الحرب. ومن ضمن العوامل البارزة في التحول الأمريكي:
-إدراك واشنطن أن إيران متشبثة ببرنامجها النووي وإن كلفها ذلك حربا ضروسا، لاسيما بعدما حققت طهران الاكتفاء الذاتي في الكثير من القطاعات واستطاعت التقليل من تأثير الحصار الغربي عليها، وأظهرت عزيمة قوية بل والتحكم في سير مصالحها مستفيدة من التناقضات الدولية في عالم يشهد تغييرا على المستوى جيوسياسي.
-إدراك واشنطن الفاتورة المرعبة لخوض الحرب، فتفوقها العسكري سيمنحها نصرا على إيران، ولكنه سوف لن يكون نصرا نهائيا بل مستنقعا أخطر من الأفغاني والعراقي. الحرب مع إيران سيكلف الولايات المتحدة ما بين 15% الى 20% من قدرتها العسكرية في مواجهة الترسانة العسكرية الإيرانية التي لا يستهان بها. ولا يمكن للولايات المتحدة نهائيا المغامرة بقوتها من أجل منطقة مثل الشرق الأوسط تفقد طابعها الاستراتيجي وفي وقت يشهد العالم ظهور قوى جديدة مثل الصين وعودة روسيا وقوى إقليمية مثل البرازيل والهند. ويؤكد خبراء البنتاغون أن واشنطن كان بمقدروها ربح الحرب بأقل الخسائر التي لن تؤثرها على قوتها عالميا قبل سنة 2005 ، ولكن بعد هذا التاريخ ولاسيما اليوم أصبح من الصعب شن الحرب بدون تكبد خسائر فادحة ستؤثر على مستقبل قوتها ونفوذها العالمي. ومن ضمن الأمثلة الدالة في هذا الشأن، كانت حاملات الطائرات الأمريكية منذ عشر سنوات تجوب مياه الخليج والبحر الأبيض المتوسط بدون قلق، ولكن التقدم التكنولوجي الذي اكتسبته بعض الدول وعلى رأسها إيران لم يعد يسمح بهذه الحرية في الإبحار في حالة نشوب حرب. ولنتخيل سيناريو حرب أمريكية-إيرانية تخسر فيها واشنطن حاملتي طائرات، نتحدث عن خسارة توازي 20 مليار يورو وسيترتب عنه عجز للبنتاغون في مراقبة بعض مناطق البحار في العالم. وكان كبار قادة الجيش الأمريكي قد عارضوا سنة 2007 مخططات الرئيس جورج بوش بشن الحرب ضد إيران. وهناك رواية اتفاق جميع الأجهزة الاستخباراتية التي قدمت لبوش تقريرا يؤكد وقف إيران لبرنامجها النووي سنة 2003. ويوجد تشكيك في هذه الرواية التي هدفت الى تجنيب البلاد حرب جديدة ستكون أخطر من أفغانستان العراق وقد تشكل بداية انهيار نفوذ واشنطن عالميا.
-الفقدان التدريجي للشرق الأوسط لأهمية اقتصاديا بالنسبة لواشنطن بعدما حققت الولايات المتحدة الاكتفاء الذاتي من طاقة النفط اعتمادا على قدراتها الإنتاجية وعلى نفط النروج والمكسيك وكندا وفنزويلا وبعض الدول الإفريقية ثم رهانها على الطاقات المتجددة، وهو ما جعل ارتهانها الى نفط الخليج العربي يتراجع مع مرور الوقت. ويكتب جون دوفييلد من جامعة جيورجيا “مفارقة تاريخية ستبدو لنا مستقبلا عندما نقارن التورط الكبير واشنطن في الشرق الأوسط مع ما نستورده من بترول من هناك”.
-انتقال ثقل العالم عسكريا واقتصاديا الى ضفتي محيط الهادي الذي يمثل المستقبل وبداية نهاية العلاقات الأطلسية التي طبعت السياسة الدولية منذ فترة طويلة. وكان أوباما قد أعلن منذ أكثر من سنة انتقال الاهتمام الأمريكي بآسيا-الباسفيك الذي يشمل أكبر التكثلات البشرية والاقتصادية في تاريخ الإنسانية من خلال الهند والصين واليابان وكوريا الجنوبية والمكسيك وكندا وروسيا والولايات المتحدة علاوة على دول أخرى منها أمريكا اللاتينية التي تطل على هذا المحيط مثل فنزويلا والتشيلي والإكوادور.
-قرار أوباما بعدم إعطاء ضمانات لأي دولة للدفاع عنها باستثناء في الحلف الأطلسي وإسرائيل واليابان وكوريا الجنوبية والتايوان، وهذا يعني عدم الدفاع عن الدول الخليجية مستقبلا. ولم تدرك الدول العربية الخليجية هذا المعطى، فواشنطن لم تعد مستعدة لجعل مستقبلها رهين بدولة مثل العربية السعودية التي لم تحقق أي خطوة نحو الديمقراطية ولكنها تحلم بقيادة الشرق الأوسط بتأييد أمريكي.
في غضون ذلك، تدرك العربية السعودية هذه المتغيرات متأخرة للغاية وإن كان بعض الأمراء لم يصدقوا بعد هذا التحول. وشكل الاتفاق حول النووي الإيراني صدمة حقيقية للرياض. وأصبحت الرياض تهرول في جميع الاتجاهات للبحث عن حليف جديد في الساحة للتحالف معه، وتحاول خطب ود روسيا وفرنسا وتلجأ مجددا لما يسمى “دبلوماسية صفقات الأسلحة”.
ويناور مدير المخابرات السعودية بندر بن سلطان في رسم خارطة طريق تحالفات جديدة للسعودية. في هذا الصدد، يحاول الرهان على موسكو من خلال صفقة أسلحة ضخمة تتجاوز عشرة ملايير يورو. لكن موسكو تمتلك مخططات بعيدة المدى ولن ترهن نفسها بالرياض ولن تتخلى عن دمشق.
وفي الوقت ذاته، تجرب السعودية الرهان على فرنسا التي تمتلك حق الفيتو في مجلس الأمن وقد تفيد الرياض في لحظات معينة، والثمن مجددا هو صفقة أسلحة كما تكشف جريدة لاتريبين الفرنسية بقيمة قد تصل الى 20 مليار يورو. وتجد استجابة من فرنسا التي تبحث بدورها عن خارطة تحالفات جديدة لوقف تراجع نفوذها الدولي، وتعتقد في الاستفادة من الرياض لوزنها المفترض في العالم العربي والإسلامي.
ودائما في إطار محاولة رد الاعتبار الاستراتيجي لها، ترتفع أصوات سعودية منها صوت الأمير الوليد بن طلال يتحدث عن ” شراء صواريخ نوويه من باكستان. هذا الطرح مرتبط بما يسمى “القنبلة الإسلامية الباكستانية”، لكن باكستان لن تجرؤ على فتح باب جديد في عالم التسلح ببيعها السلاح النووي. وفي الوقت ذاته، يتحدث عن استعداد العالم السني لتأييد إسرائيل لمهاجمة المشروع النووي الإيراني.
اتفاق السداسية مع إيران حول برنامجها النووي يؤكد التحول العميق في التفكير الاستراتيجي لواشنطن بتخليها تدريجيا عن الشرق الأوسط وبتروله وأخيرا دوله، وهو ما فاجأ ليس فقط بعض المحللين الذين يعتمدون آليات وتصورات قديمة بل دولة مثل العربية السعودية اعتقدت أن “اتفاقية غير المكتوبة للملك عبد العزيز وروزفلت” في فبراير 1945″ صالحة لكل زمان، لتجد نفسها شاردة دبلوماسيا ويتيمة استراتيجيا في مسرح الأحداث الدولية الذي لا يرحم من لا يتكيف ويتأقلم، وهذه أبرز سمات السياسة السعودية.