يشكل رحيل الملكة إليزابيث الثانية عن تاج المملكة المتحدة بعد سبعة عقود من الحكم منعطفا في تاريخ هذا البلد، حيث يجد نفسه مطالبا بالتأقلم مع التطورات الدولية الجارية للبقاء ضمن الكبار تفاديا للتحول إلى دولة هامشية. ومن المناطق التي ترغب لندن تعزيز نفوذها فيه خلال العقود المقبلة، منطقة المغرب العربي-الأمازيغي؛ وتتوفر شروط موضوعية وتحديات واقعية أمام المسعى البريطاني.
ويشهد العالم تطورات متسارعة خلال السنوات الأخيرة، وبدأت ترسم معالم خريطة جيوسياسية جديدة لاسيما بعد الحرب الروسية ضد أوكرانيا. وبدأ الكبار يتسيدون المشهد الدولي من الولايات المتحدة وروسيا والصين، وبدأت دول كانت حتى الأمس هي التي صنعت جزء كبير من الخريطة العالمية، ونعني فرنسا وبريطانيا، تعاني من التهميش وتهددها دول أخرى صاعدة بقوة ستحتل مكانها. وقد تكون مراسيم تشييع إليزابيث هي مراسيم تشييع آخر فصول الإمبراطورية البريطانية.
وتساهم عدد من الأحداث الدولية والوطنية، أي على المستوى البريطاني، في الرفع من كثافة انكباب مراكز التفكير وكذلك الدولة العميقة في التفكير في المستقبل، وإضافة الى الحرب الأوكرانية، يوجد حدثان رئيسيان في هذا الصدد وهما:، الأول وهو البريكسيت سنة 2016، خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بينما الحدث الثاني هو رحيل الملكة إليزابيث الثانية.
وبدأت لندن مسيرة البحث عن البقاء مع الكبار، وهي أمام تحديات كبرى أهمها الحفاظ على تحالف الكومنويلث الذي يمنحها قوة معنوية وحضورا سياسيا وعسكريا في مختلف مناطق العالم، ولكنه تدريجيا يصبح نسبيا خاصة وأن عدد من الدول تهدد بالانسحاب منه. ثم البحث عن مناطق جديدة للنفوذ السياسي والأسواق التجارية والاقتصادية. ومن ضمن المناطق التي تركز عليها بريطانيا حاليا، منطقة أمريكا اللاتينية ثم منطقة شمال إفريقيا، أي المغرب العربي-الأمازيغي، المغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا.
ويبدو أن تغلغل بريطانيا في أمريكا اللاتينية عمل صعب للغاية نتيجة عاملين، الأول وهو توجه دول جنوب القارة التي لا ترغب في قوى غربية جديدة في المنطقة لاسيما وأنها تعمل من أجل تقليص النفوذ الأمريكي،؛ والثاني يتجلى في رغبة دول المنطقة الانفتاح على دول مثل روسيا والصين والهند. ويؤكد خبراء من أمريكا اللاتينية أن قادة هذه الدول يرون في بريطانيا نسخة مصغرة من الولايات المتحدة ومرتبطة بقراراتها، ولهذا يفضلون “التعاون مع الأصل”، أي واشنطن بدل لندن.
في حين تبقى منطقة شمال إفريقيا مرشحة أكثر لمنح بريطانيا فضاء لتعزيز التعاون الثنائي. والواقع أن علاقة بريطانيا بشمال إفريقيا غريبة جدا، وإذا كانت الإمبراطورية البريطانية لا تغيب عنها الشمس، فالمفارقة أنها كانت شمسها تغيب في شمال إفريقيا، في إشارة الى نفوذها الضعيف بل وعدم تواجدها. وعمليا، اعتادت الدول الكبرى عند عملية التوسع لبناء قوة إقليمية أو إمبراطورية السيطرة على الدول والمناطق المجاورة، حيث تنتهز فترات الضعف التاريخي لجيرانها وتستعمرهم. وعندما بدأت بريطانيا بالتفكير في التجارة العالمية، قامت بإنشاء أول شركة دولية لها باسم “باربري كومباني” سنة 1585، وذلك إبان حكم إليزابيث الأولى للتبادل التجاري مع المغرب، وقامت الملكة بتعيين وزيرها روبير مقيما في المغرب وقتها، لتطوير العلاقات الثنائية.
ويوجد عامل رئيسي يساعد بريطانيا على تعزيز تواجدها في شمال إفريقيا هو رغبة دول المنطقة وعلى رأسها المغرب والجزائر بالترحيب بالبريطانيين، ويكفي أن البلدين اتخذا قرارات هامة لتعزيز اللغة الإنجليزية في التعليم، ثم رغبة البلدين في الرفع من التبادل التجاري. في الوقت ذاته، لم تتورط بريطانيا في النزاعات الإقليمية في شمال إفريقيا مثل نزاع الصحراء عكس دول مثل إسبانيا وفرنسا. ويعد غياب الإرث الاستعماري البريطاني عاملا مساعدا جدا.
لكن نجاح بريطانيا في التواجد في شمال إفريقيا رهين بشروط أو عوامل متعددة، ترى ألف بوست أنها يجب أن يتم الأخذ بعين الاعتبار بها وهي:
في المقام الأول، ضرورة وعي الطبقة السياسية بأهمية شمال إفريقيا، ويجب أن يترجم هذا بالرفع من الزيارات الى المنطقة، ومنها زيارة الملك تشارلز. ومما يدعو الى التساؤل أن بعض رؤساء الحكومات لا يتوجهون الى شمال إفريقيا إلا ناذرا. ولم يزر رئيس الحكومة السابق بوريس جونسون المنطقة نهائيا، والأمر نفسه مع سلفه تيريزا ماي.
في المقام الثاني، تجاوز تلك الفكرة السائدة وسط البريطانيين بأن شمال إفريقيا هو فضاء حكر ومقتصر على فرنسا، ولهذا، تتجنب عدد من الشركات البريطانية المغامرة بالاستثمار بكثافة فيه.
في المقام الثالث، يتطلب الأمر إنهاء الخارجية البريطانية العمل بشروط مجحفة للحصول على التأشيرة للمغاربيين، وإنهاء الفيتو ضد استقدام اليد العاملة من المغرب والجزائر وتونس وموريتانيا.
في المقام الرابع، استعداد الصراع أو الأخرى المنافسة مع دول متواجدة مسبقا في المنطقة مثل إسبانيا وفرنسا، وأخرى بدورها تريد أن تحجز مكانها ضمن الخمس الأوائل وهي الصين وتركيا، لاسيما هذه الأخيرة. وتجدر الإشارة الى أن تركيا تنهج سياسة هجومية لتعزيز نفوذها في البحر الأبيض المتوسط، وقد نجحت في تقليص النفوذ الفرنسي، وقد تكرر الأمر نفسه في مواجهة لندن.
ويبقى التحدي الكبير هو: هل بريطانيا قادرة على خلق نخبة متخصصة في شمال إفريقيا، كما أن دول مثل المغرب والجزائر وتونس هل هي قادرة على خلق نخبة أنجلوسكسونية تكون في مستوى النخبة العربية والفرنكفونية، لأن تعزيز العلاقات لا يعني الرفع من المبادلات التجارية بل قيامها على أسس بشرية صلبة.
بدون شك، سعي وبحث بريطانيا عن فضاءات جديدة للقرن 21، سيجعلها تنهي تلك المفارقة التاريخية التي ميزت انغلاقها عن أقرب منطقة غير أوروبية إليها، وهي منطقة المغرب العربي-الأمازيغي، وإن تباطأ إيقاع هذا الانفتاح، فهو رهين ب: متى ستستقر لندن على بوصلة جديدة.