تنفرد بريطانيا بخاصيات في مكافحة الإرهاب، بعضها يثير قلق حلفاءها الأوروبيين، وهي خاصيات تنطبق على سياستها العامة وخاصة الخارجية. وعموما، فهي تلعب دورا رائدا عالميا في مكافحة الإرهاب، ولكنها لا تظهر بمظهر الدولة التي تتزعم مكافحة الإرهاب لا أوروبيا ولا عالميا، بل اعتادت الوقوف وراء الاتحاد الأوروبي ووراء الولايات المتحدة وكذلك العمل بشكل منفرد.
ويحتل مكافحة الإرهاب حيزا هاما في الأجندة الأمنية الداخلية والخارجية البريطانية في الماضي والحاضر، فالأمر يتعلق بدولة ذات مصالح ونفوذ منتشرة في مختلف قارات العالم، والدولة التي صنعت خلال القرون الأخيرة مختلف الخرائط جيوسياسية، مما يجعلها عرضة لكل عنف وإرهاب عابر للقارات.
ويحضر موضوع مكافحة الإرهاب بقوة في الخطاب البريطاني. فقد احتضنت لندن مؤتمر محاربة داعش خلال يناير الماضي الذي انتهى بتوصيات لا تختلف عن توصيات باريس الذي جرى هذا الأسبوع. ويتصدر أجندة حكومة زعيم المحافظين الجديدة دفيد كاميرون بشكل بارز. وهذا ما جعل ملك بريطانيا إليزابيث الثانية تركز على تزعم لندن مكافحة الإرهاب والمساهمة في المجهودات العالمية، وذلك في خطابها يوم 27 مايو الماضي عندما حددت البرنامج التشريعي لحكومة دفيد كاميرون. وقالت في هذا الصدد “”الحكومة البريطانية ستواصل الاضطلاع بدور مهم في العالم، وفي الشؤون الخارجية، وذلك من أجل مواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والانسانية”.
وتابعت “سنواصل العمل ضمن حلف شمال الأطلسي، من أجل التصدي للإرهاب وهزمه. ستعمل المملكة المتحدة على التوصل إلى تسوية سياسية في سوريا، وستقدم دعماً إضافياً لبرنامج الحكومة العراقية من أجل تطبيق الإصلاحات السياسية وتحقيق المصالحة الوطنية”.
وتمتلك بريطانيا تصورا شاملا في مكافحة الإرهاب مقارنة مع الكثير من الدول، وإن كانت تتعرض لانتقادات شديدة من طرف الدول العربية وكذلك الغربية بسبب احتضانها متطرفين في الماضي الى مستوى نعت لندن ب “أفغانستان الثانية” إبان عقد التسعينات والعقد الماضي.
وعمليا، تعتبر بريطانيا الدولة الغربية الأكثر تقدما وخبرة في محاربة الإرهاب لأسباب متعددة: الأول وهو تجربتها الطويلة التي امتلكتها في التعامل مع العنف السياسي إبان حركات التحرر التي خاضتها دول كانت بريطانيا تستعمرها. فالدول الغربية تضع حركات التحرر والحركات الإرهابية في سلة واحدة بسبب العنف الممارس.
والسبب الثاني هو تجربتها المريرة في مواجهة الجيش الإيرلندي “إيرا” رغم عدم رهانه على الإهاب العابر للقارات. وثالثا، تعتبر من الدول الأكثر اعتمادا على نصائج مراكز الدراسات الاستراتيجية، الأمر الذي يفسر البرغماتية التي تتعاطى معها في مواجهة الظاهرة. وأخيرا، تعتبر بريطانيا الدولة الأكثر تغلغلا وفهما للحركات الإسلامية سواء المعتدلة والمتطرفة سياسيا والمتطرفة إرهابيا. فقد ساهم احتضان بريطانيا للقادة المتطرفين طيلة سنوات طويلة من فهم أكبر لهذه الحركات. وفي الوقت ذاته، جلب لها انتقادات واسعة من طرف شركائها الأوروبيين ومن طرف الدول العربية.
كل هذه العوامل، جعلت المخابرات البريطانية بشقيتها الداخلي MI5 والخارجي MI6 تراكم تجربة هائلة وخاصة التوفر على خزان من المعلومات يمنحها “العمل الاستباقي”، مما جنب البلاد هزات إرهابية لمدة طويلة باستثناء اعتداءات ميترو لندن سنة 2005.
وتتقدم بريطانيا على باقي حلفائها في تبني استراتيجيات لمكافحة الإرهاب، فهي لا تتردد في الانخراط في كل مبادرات الولايات المتحدة الأمريكية في مواجهة الإرهاب، بينما يغلب الاحتشام على دول مثل فرنسا والمانيا التي تتحفظ في البدء الالتحاق بالبنتاغون أو سي أي غيه تحت ذريعة “استقلالية القرار الأوروبي”. ومن ضمن الأمثلة، في الوقت الذي كانت معظم دول أوروبا تلتزم بتوصيات الاتحاد الأوروبي بعدم التجسس على المواطنين حتى لا يتم خرق حرياتهم، قامت بريطانيا الصيف الماضي بسن قانون لمراقبة الإنترنت ومختلف الاتصالات، بينما تتخذ فرنسا القرار في الوقت الراهن.
وعلاوة على نهج سياسة التنصت ومراقبة التحويلات المالية والمساجد، وهي المهام التي تقوم بها المخابرات الداخلية ، تعلن بريطانيا عن استراتيجيتها الخارجية في محاربة داعش التي تتجلى، وفق مسؤول بريطاني نقلت رويترز تصريحاته على هامش مؤتمر باريس، في دعم عسكري حقيقي للقوات العراقية في مواجهة داعش. وتتوفر بريطانيا في الوقت الراهن على 800 من الجنود الخبراء في محاربة الأرهاب، وبعضهم من الذين كانو في إيرلندا سابقا، ومهامهم تقوم على تدريب العراقيين على تفكيك العبوات الناسفة ورصد عملاء الإرهابيين ومواجهة هجمات الإرهابيين.
في الوقت ذاته، تتبنى لندن استراتيجية مساندة وتدريب المعارضة المعتدلة إسلاميا وكذلك الجيش الحر، وتؤكد أن هذا سيجعل داعش تتراجع أمام قوة المعتدلين. لكن الكثير من الخبراء يعربون عن قلقهم بحكم أن الكثير من الحركات التي توصف بالمعتدلة تتحول الى متطرفة بل وينضم أعضاءها الى داعش.
وتعتبر بريطانيا الدولة الأوروبية الأولى التي أنشأت “جيشا رقميا وإلكترونيا” لشن حرب ضد داعش في شبكات التواصل الاجتماعي والصحافة الرقمية. ومنذ أبريل لماضي، بدأ قرابة 500 من الجنود والمدنيين البريطانيين وغير البريطانيين وقد يرتفع العدد الى 1500 عضو بشن حرب نفسية ضد داعش عبر بث أخبار للتأثير على نفسية مقاتلي هذا التنظيم الإرهابي. ويسمى هذا الفريق ب فيلق 77، وهي المجموعة العسكرية التي كانت تحارب اليابانيين في الحرب العالمية الثانية وأصبحت أسطورة وقتها بسبب عملياتها.
ويكشف استعرض استراتيجية بريطانيا برهانها الانفرادي على مكافحة الإرهاب رغم انخراطها في المخططات الأوروبية التي تعتبرها في بعض الأحيان غير مجدية بما فيه الكفاية.