أشار تقرير المخابرات المركزية الأمريكية سي إي إيه الى مسؤولية ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في عملية الاغتيال التي تعرض لها الصحفي جمال خاشقجي. وعملية تسريب مضمون التقرير الى الصحافة الأمريكية مثل الواشنطن بوست ونيويورك تايمز وكبريات وكالات الأنباء مثل رويترز يدخل ضمن حفاظ الإستبلشمنت الأمريكي على مصالح البلاد وتتلخص فيما يلي: لا يكمن قبول ولي العهد محمد بن سلمان ملكا للسعودية مستقبلا.
وعمليا، تطورات ملف خاشقجي المغتال يوم 2 أكتوبر الماضي والاتهام المباشر لمحمد بن سلمان لا يخضع لمفاهيم التحقيق الجنائي للقبض على المجرم الحقيقي بل لمفاهيم جيوسياسية. في هذا الصدد، ليس من اختصاص المخابرات الأمريكية الشق الجنائي المحض بل السياسي. وسيبقى الاتهام ناقصا إذا تصادق عليه الشرطة الفيدرالية إف بي أي التي يعتمد القضاء تقاريرها لبدء أي محاكمة مواطن أمريكي أو أجنبي. وهنا لا يمكن نهائيا استبعاد بدء إف بي أي تحقيقا مع السفير السعودي في واشنطن خالد بن سلمان الذي، وفق تقرير المخابرات المركزية حسب الواشنطن بوسط، اتصل بجمال خاشقجي وطلب منه الانتقال الى قنصلية إسطنبول للحصول على الأوراق الإدارية للزواج، حيث جرى اغتياله من طرف كوماندو قدم من السعودية.
وقدمت سي إي إيه تقييما للوضع اعتمدت فيه على معطيات من مختلف الوكالات الاستخباراتية بما فيها تلك التي تفوق سي أي إيه قوة مثل المكتب الوطني الإستطلاعات أو وكالة الأمن القومي. وفي مقال سابق في القدس العربي نشر بتاريخ 21 أكتوبر الماضي بعنوان “هل مكالمات واتساب بين مطرب ومكتب الأمير هي سبب إصرار الأمريكيين على اتهام بن سلمان بقتل خاشقجي؟” نقلت الجريدة عن مصدر غربي عليم بالسياسة الأمريكية قصة المكالمات ومنها كيفية عمل الأجهزة، يقول المقال: ” هناك احتمال آخر قوي وهو فرضية تسجيل وكالة الأمن القومي الأمريكي لمكالمات لسكرتير الأمير محمد بن سلمان يطالب، بأمر من الأمير نفسه، من رئيس الكوماندوز، ماهر مطرب، قتل جمال خاشقجي إذا رفض التوبة والعودة الى البلاد أو فقط قتله خلال الدقائق الأولى لاستنطاقه”.
وتدرك الولايات المتحدة عندما وقعت الجريمة يوم 2 أكتوبر الماضي تورط ولي العهد بن سلمان في اغتيال خاشقجي. إذ تعد العربية السعودية دولة مركزية في الشرق الأوسط بسبب البترول وبسبب مكة والمدينة المنورة كما أنها تجتاز بمرحلة دقيقة وهي الاعداد لانتقال العرش بشكل عمودي من الأب سلمان الى الابن محمد والعمل على إنهاء الصيغة الكلاسيكية بين أبناء المؤسس عبد العزيز. وهذا يجعل السعودية تخضع لمراقبة مختلف الاستخبارات الكبرى وخاصة الأمريكية والبريطانية والفرنسية والروسية والإقليمية مثل الإيرانية والتركية. وبالتالي كل مكالمات المسؤولين السعوديين وخاصة ولي العهد ومساعديه تخضع للتنصت من طرف وكالة الأمن القومي الأمريكي، وكل رحلات مساعديه تخضع للمراقبة الدقيقة من مختلف الأجهزة، ولهذا كانت لدى وكالة الأمن القومي علما مسبقا بمكالمات ولي العهد ومدير مكتبه باقي أعضاء الكوماندو، ولهذا تكتبت نيويورك تايمز بوجود مكالمات قبل وقوع الجريمة.
ولنتساءل: لماذا صمتت الأجهزة الإستخباراتية الأمريكية في البدء والآن تكشف عن المكالمات الهاتفية التي رصدتها لولي العهد وباقي أعضاء الكوماندو؟ الأمر لا يتعلق بالمكالمات التي لدى تركيا بل أمريكية خالصة، حيث جاء في مقال الواشنطن بوست فحص سي أي إيه لعدد من مصادر الاستخبارات، وبالتالي يتعلق الأمر بتقرير مجمع معظم وكالات الاستخبارات الأمريكية وليس فقط سي إي إيه.
والتساؤل المطروح: لماذا عمدت الاستخبارات الى تسريب التقرير الى الصحافة الأمريكية ووكالة رويترز ثم الى عدد من المشرعين في مجلس النواب والشيوخ خاصة المكلفين بالعلاقات الخارجية والدفاع؟ الأجوبة هي كالتالي:
-لقد اطلع الرئيس دونالد ترامب على مضمون التقرير الاستخباراتي الذي يتهم محمد بن سلمان، لهذا تراجع حماسه في دعم ولي العهد محمد بن سلمان، لكنه تباطأ في اتخاذ عقوبات ضده بل يبدو أنه حاول التماطل على الرغم من أن صمته يضر بمصالح الولايات المتحدة. ومن أغرب التصريحات هي التي صدرت عن ترامب يوم السبت من الأسبوع الجاري عندما قال أنه سيطلع على تقرير سي أي إيه في الطائرة المتوجه به الى كاليفورنيا. لا يعقل نهائيا تسريب سي أي إيه تقريرا الى الصحافة والنواب والشيوخ قبل الرئيس، هذا يعني إقالة المسؤول عنها مباشرة. تصريح ترامب يؤكد وجود تماطل لحماية ولي العهد.
-تفاجأ مجمع الاستخبارات الأمريكية United States Intelligence Communty بموقف مستشار الأمن القومي جون بولتون في تصريحات نقلتها وكالة بلومبيرغ بداية الأسبوع الجاري تحاول تبرئة محمد بن سلمان من الجريمة. ويعد جون بولتون من أكبر المدافعين عن إسرائيل، وبالتالي قد يكون بموقفه يخدم مصالح إسرائيل أكثر من مصالح الولايات المتحدة.
-محاولة السعودية احتواء الأزمة عبر طمس معالم الجريمة بعدما طالبت النيابة العامة في الرياض يوم الخميس من الأسبوع الجاري بإعدام بعض المتورطين في الجريمة ومحاولة تبرئة كل من سعود القحطاني والجنرال العسيري ما سيجعل تبرئة ولي العهد أوتوماتيكية.
في غضون ذلك، دفاعا عن مصالح الولايات المتحدة، تحرك مجمع الاستخبارات الأمريكي ومعظم الإستبلشمنت لترجيح كفة مصالح البلاد وهي فيما يتعلق بهذا الملف تتلخص في: استحالة تولي محمد بن سلمان عرش السعودية لأنه اتخذ قرارات تمس مصالح الولايات المتحدة وقد يعلن الحرب على أي دولة في الشرق الأوسط في أي وقت ويجر واشنطن الى حرب هي في غنى عنها. علاوة على احتمال تقربه من الصين أو روسيا في أي وقت، وكان مقال أحد المقربين منه، مدير العربية تركي الدخيل بالتهديد بالانتقال الى روسيا والصين كافيا الى إغضاب الإستبلشمنت، وفعل الدخيل ذلك بترخيص من ولي العهد لاختبار نوايا الغرب. كما أنه من مصلحة الولايات استمرار الصيغة الكلاسيكية للتناوب على العرش بإجماع بين الأمراء في السعودية وليس توريث العرش من الأب الى الابن كما هو معمول به في باقي الملكيات ومنها العربية.
ولا يهتم الإستبلشمنت بمحمد بن سلمان، فهو في آخر المطاف شخص واحد ويمكن الاستغناء عنه، ولكن ما يهم الاستبلشمنت الغربي والأمريكي أساسا هو استمرار آل سعود في حكم السعودية حتى لا يسقط بلد غني بالنفط في الفلك الروسي-الصيني في حالة وقع تغيير جذري بنهاية الملكية.
إن تصرف مجمع الاستخبارات الأمريكية للدفاع عن مصالح الولايات المتحدة شبيه بالقرار الذي اتخذته سنة 2006 عندما سلمت 13 وكالة استخبارات تقارير الى الرئيس الجمهوري وقتها جورج بوش الابن بأن إيران لا يمكنها الحصول على القنبلة النووية إلا في ظرف عشرين سنة على الأقل، وبالتالي لا داعي لشن حرب عليها. وكان جون بولتون وقتها سفيرا للولايات المتحدة في الأمم المتحدة وعلق بأن هذا التقرير هو بمثابة انقلاب عسكري على الرئيس. وكان مجمع الاستخبارات الأمريكي يرى في الحرب على إيران ضررا كبيرا على مصالح البلاد في ظرف تتقوى فيه الصين وروسيا ووضع حدا لأي مغامرة جديدة من طرف جورج بوش ومخططات المحافظين الجدد.
وهكذا، مستقبل ولي العهد يوجد بين المدافعين عنه من المسيحية الصهيونية بزعامة كوشنر صهر ترامب وكذلك مستشاره للأمن القومي بولتون وقادة إسرائيل، وبين الإستبشلمنت الأمريكي وحتى الغربي الذين يرغبون في إنهاء مرحلة محمد بن سلمان. تسريب تقرير سي أي إيه هو انتصار للإستبلشمنت الأمريكي. وهذا التسريب يقطع الطريق على تماطل الرئيس في دفاعه عن محمد بن سلمان ووضع نهاية لأي محاولة دفاع عنه في المجلس الأمن القومي الأمريكي من طرف بولتون بل ويهيئ لمحاكمته أمام القضاء الدولي ونهاية حلمه في التحول الى ملك للسعودية. وكان الأمير المغربي هشام بن عم الملك ممد السادس قد صرح (انظر القدس العربي 25 أكتوبر ) “الدولة العميقة في الولايات المتحدة تريد بديلا لمحمد بن سلمان الذي تحول الى طاغية”.