فاجأ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الرأي العام الدولي، خاصة في العالم الإسلامي، بمقترحاته حول ما افترض أنه أزمة الإسلام السياسي، ولا يمكن فهم هذه الأطروحة الجديدة، التي فشل في جلب الاتحاد الأوروبي إليها، بالوضع الصعب لفرنسا في التطورات الأخيرة في البحر الأبيض المتوسط، ثم إيمانه بأطروحة صامويل هنتنغتون «من نحن».
ويرى ماكرون، في خطابه يوم الجمعة الماضي في ضواحي باريس، حيث يعيش الفرنسيون المسلمون، بأن الإسلام يعيش أزمة في العالم، من خلال قولته التي ستصبح كلاسيكية في رؤية فرنسا إلى الإسلام وهي «الإسلام يعيش أزمة في كل مناطق العالم». وتعهد في المقابل بوضع حد لما يسمى الغيتو الإسلامي في فرنسا، وتوسيع منع الحجاب في الخدمات العامة، ومنع تكوين الأئمة من طرف دول تصدّر الهجرة وهي الجزائر وتركيا والمغرب.
وتشكل أطروحة ماكرون مفاجأة حقيقية للرأي العام الدولي، خاصة مسلمي فرنسا، بحكم تزامنها مع الوباء العالمي فيروس كورونا، الذي يتسبب في تأثيرات ومآسٍ اقتصادية واجتماعية هائلة، ومساعي مختلف الحكومات في العالم لمواجهة هذه التأثيرات. في الوقت ذاته، تتزامن مع تراجع حقيقي للإسلام السياسي، بل حتى انتشار مظهر التشكيك الديني في العالم العربي، ونفور الناس من الجماعات المتطرفة دينيا. المشروع الفرنسي بشأن ما يسمى الإسلام الفرنسي، هو ضمن مشاريع أوروبا من أجل هيئة دينية إسلامية مستقلة عن باقي الدول المصدرة للهجرة القادمة من الدول الإسلامية مثل، شمال افريقيا والشرق الأوسط، خصوصا تركيا. وحاولت فرنسا منذ عهد الرئيس نيكولا ساركوزي إقناع الدول الأوروبية بضرورة تبني سياسة باريس بشأن الإسلام، وأساسا الإسلام السياسي. وشهد هذا المشروع تراجعا في عهد الرئيس الاشتراكي فرانسوا أولاند، ثم انتعش فجأة وبشكل مثير مع إيمانويل ماكرون، لكن رغم محاولات باريس المتتالية، فلم تقنع باقي الدول الأوروبية الكبرى مثل دول شمال أوروبا وألمانيا، خاصة بريطانيا، التي لا ترغب في المس بالرموز الدينية ومنها، وجود شرطيات بالحجاب في هذا البلد الأوروبي. في غضون ذلك، لا يمكن فصل خطاب ماكرون عن عاملين، الأول يتعلق بالسياسة الخارجية، والثاني بارتفاع النقاش حول الهوية الفرنسية.
وعلاقة بالعامل الأول، يتزامن خطاب الرئيس ماكرون، مع التوتر مع دولة ترغب الآن الحديث باسم الإسلام في العالم الإسلامي وهي تركيا، حيث تعد الدولة الوحيدة خلال القرنين الأخيرين، التي وقفت في وجه سياسة فرنسا في البحر الأبيض المتوسط، منذ المواجهة البريطانية – الفرنسية في هذا البحر إبان فترة نابليون. وركّز ماكرون كثيرا على الإسلام والسياسة الدولية في خطابه، وسبقت إشاراته المتعددة إلى الإسلام في مواجهته مع الرئيس التركي طيب رجب أردوغان حول الملف الليبي، ثم ملف ثروات شرق البحر الأبيض المتوسط. وركزت باريس كثيرا على اتهام تركيا بالتوسع لإحياء الإمبراطورية العثمانية، أي التوسع باسم الدين.
أما العامل الثاني، فهو ارتفاع الحديث عن الهوية الفرنسية. في هذا الصدد، اتهم ماكرون جماعات بالعمل من أجل «الإسلام الانفصالي» أي فصل الطائفة المسلمة عن باقي المجتمع الفرنسي، في أفق خلق تنظيمات إسلامية تعد للاستحواذ على الجمهورية مستقبلا. ويكون ماكرون بهذا، قد استوحى هذه الأفكار من رواية للفاتيكان، الذي يحذّر من الأحياء الإسلامية في أوروبا، التي ستكون نواة لكيانات مستقبلا، ثم التحذير من ارتفاع نسل المسلمين في أوروبا. كما تستعمل نسبيا الأنظمة العربية في صراعها مع الحركات الإسلامية هذه الرواية. ومن دون نفي هذه الرواية، فهي تنتمي إلى الأدب السياسي الرخيص القائم على الإثارة، والتساؤل هو، هل تؤمن الاستخبارات الفرنسية، التي أعدت التقارير لخطاب ماكرون بهذا النوع من الروايات البسيطة؟ في الوقت ذاته، هذه الرواية لها ارتباط وثيق بقضية الهوية في فرنسا، وهي مستوحاة من أطروحة المفكر سوسيو-عسكري صامويل هنتنغتون، الذي دافع في آخر كتاب له «من نحن» قبل رحيله على ضرورة العودة إلى الجذور الغربية، وهو الكتاب الذي يشكل إنجيل قومية البيض في الولايات المتحدة، في مواجهتها أساسا لما يعتبرونه «الخطر اللاتيني» والآن تحول إلى أنجيل ماكرون ومساعديه.
والمثير أن مخطط ماكرون يتزامن وارتفاع الحديث من طرف جزء من النخبة الفرنسية، وخبراء استخبارات هذا البلد عن ما تعتبره مساعي أنقرة لتحويل الجالية التركية في فرنسا إلى طابور خامس باسم تنظيم الديانة الإسلامية. ومنطقيا، يعيش العالم الإسلامي مشاكل حقيقية، جزء منها مرتبط بتأويل الدين واستحضاره كمرجع في الكثير من مناحي الحياة وأحيانا بتأويل تعسفي مناف للعقل، حيث تحولت أغلب الدول الإسلامية إلى كيانات فاشلة بامتياز، مقارنة مع باقي دول العالم، ولكن في الوقت الذي لبس فيه ماكرون جبة المصلح الديني والسياسي تناسى كيف تحولت فرنسا إلى عامل بنيوي في أزمة عدد من دول العالم الإسلامي، خاصة في القارة الافريقية، إذ يعد الفساد وغياب الديمقراطية من المشاكل التي تعرقل تطور العالم الإسلامي، يحدث هذا في وقت تستقبل فيه بنوك فرنسا الأموال المهربة من العالم الإسلامي، ويحدث هذا في وقت تدعم فيه فرنسا الأنظمة القمعية في العالم الإسلامي. ونستحضر كيف دعمت فرنسا نظام الديكتاتور زين العابدين بن علي في تونس، إبان اندلاع الربيع العربي المطالب بالديمقراطية، وكيف ساهم نظام معمر القذافي في تمويل حملة المرشح نيكولا ساركوزي الذي أصبح رئيسا لهذا البلد الأوروبي.
نعم، فرنسا موطن الفكر المرتبط بالأنوار الذي خدم الإنسانية، ولكنها بسبب سياستها، جزء من مشاكل العالم الإسلامي، إلا أن المصلح ماكرون لم يتطرق إلى هذا الجانب.