تعلمت فرنسا وإسبانيا من السياسة البراغماتية للولايات المتحدة، أي استحضار المصالح بالدرجة الأولى والتلاعب بالمصطلحات في مخاطبة الآخر لإيهامه بالوقوف إلى جانبه. هذا ما تطبقه بامتياز كل من مدريد وباريس تجاه الجزائر والمغرب في ملف نزاع الصحراء الغربية بل وفي سياستهما عموما.
وخلال الثلاثة أسابيع الأخيرة، شهدت سياسة باريس ومدريد تجاه الرباط والجزائر دينامية خاصة، تجلت في بعض الزيارات وإلغاء أخرى، وترديد كل عاصمة جنوب المتوسط بتحقيق مكاسب سياسية على حساب جارتها.
وعمليا، شهدت العلاقات بين إسبانيا والجزائر انفراجا منذ نهاية كانون الأول/ديسمبر الماضي، عندما أعادت إسبانيا سفيرها إلى مدريد بعدما كانت قد سحبته منذ أكثر من سنتين، وذلك نتيجة ما اعتبرته انحيازا إسبانيا لصالح مغربية الصحراء. وكان رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز قد أثنى خلال نيسان/أبريل 2022 على دعم مقترح الحكم الذاتي كحل لنزاع الصحراء في حالة قبوله من طرف جبهة البوليساريو، واعتبره الحل الأمثل والواقعي، وتسبب هذا في التوتر مع الجزائر.
وكانت الجزائر ستستقبل وزير خارجية مدريد مانويل ألباريس يوم 12 شباط/فبراير الماضي، غير أن الجزائر ألغت الزيارة ساعات قبل حدوثها. وتعددت الروايات بين عدم استقبال الرئيس الجزائري عبد العزيز تبون للمسؤول الإسباني بسبب الأجندة، وبين رواية تقول برفض عميد دبلوماسية مدريد معالجة ملف الصحراء كما ذهبت إلى ذلك جريدة «كونفدنسيال» الإسبانية.
وبينما توقف محرك الانفراج في العلاقات بين الجزائر وإسبانيا، سجلت علاقات الأخيرة مع المغرب ما يبدو تقدما من خلال الزيارة التي قام بها رئيس الحكومة سانشيز إلى المغرب واستقباله من طرف الملك محمد السادس يوم 21 شباط/فبراير الماضي. كانت زيارة ود ومجاملة أكثر منها زيارة عمل، لأن الأمر لم يتعلق بالقمة الثنائية على مستوى رئيسي البلدين بل استقبال الملك للمسؤول الإسباني لأنه لم يستقبله خلال شباط/فبراير من السنة الماضية خلال القمة الثنائية. وينص بروتوكول العلاقات الثنائية على استقبال ملك البلد المحتضن للقمة الثنائية لرئيس حكومة البلد الآخر.
وخلال زيارته الأربعاء من الأسبوع الماضي إلى الرباط أدلى سانشيز بتصريح مثير مفاده أن إسبانيا ستستثمر 45 مليار يوو خلال العشرين سنة المقبلة في المغرب، ليتبين لاحقا أن هذا التصريح غير صحيح بالمرة، خاصة وأن إسبانيا لا توجد ومنذ أكثر من عقد ضمن الخمس الأوائل المستثمرين في المغرب رغم أنها الشريك التجاري الأول، وتبقى هذه مفارقة كبيرة للغاية في العلاقات الاقتصادية بين البلدين. في حين تبقى فرنسا هي المستثمر الأول في المغرب بشكل كبير بل الدولة الوحيدة التي تساعد المغرب على التطور بفضل استثمارات مثل صناعة السيارات. وإذا كانت إسبانيا هي الشريك التجاري الأول للمغرب، تحتل فرنسا موقع الشريك الاقتصادي الأول في حالة الجمع بين التبادل التجاري والاستثمارات والمساعدات المالية.
وخلال الاثنين من الأسبوع الجاري، زار وزير خارجية باريس ستيفان سيجوني المغرب في محاولة لتجاوز الأزمة الثنائية بين المغرب وفرنسا. وسبقت هذه الزيارة إشارة ساهمت في الانفراج، وتتجلى في استقبال زوجة الرئيس الفرنسي شقيقات الملك محمد السادس مريم وأسماء وحسناء في غذاء في قصر الرئاسة في باريس.
وعلاقة بملف الصحراء الذي يبقى جوهر النزاع بين المغرب والجزائر، ففي هذه الزيارة، أحال سانشيز على بيان القمة المغربية-الإسبانية خلال شباط/فبراير 2022 وهو بيان يكتفي فقط باعتبار الحكم الذاتي حلا موضوعيا. في المقابل، لا يدافع نهائيا عن الحكم الذاتي في الأمم المتحدة، كما لم تقم إسبانيا بالدفاع عن الحكم الذاتي وسط الاتحاد الأوروبي عند رئاستها للاتحاد ما بين حزيران/يونيو وكانون الأول/ديسمبر الماضيين. وخلال خطابيه أمام أشغال الجمعية العامة للأمم المتحدة خلال ايلول/سبتمبر 2022 و2023 تجنب سانشيز نهائيا الحديث عن الحكم الذاتي وركز على احترام قرارات الأمم المتحدة في هذا النزاع. وكان رهان سانشيز هو توجيه رسالة إلى الجزائر بإقناعها بعدم تغيير مدريد لما هو جوهري في موقفها من النزاع. وكانت الجزائر قد رحبت بهذه الإشارة في الأمم المتحدة، ما أدى إلى الانفراج وإعادة سفيرها إلى مدريد.
في المقابل، أبقت فرنسا على موقفها الدائم وهو عدم الإقدام على خطوة الاعتراف العلني بمغربية الصحراء، لأن هذا سيجر عليها غضب الجزائر، علما أن باريس تعتبر هذا البلد محوريا في منطقة المغرب العربي لاسيما بعد أزمة الغاز بسبب الحرب الروسية-الأوكرانية. وشنت الصحافة المغربية خاصة المقربة من الدوائر الحاكمة حملة ضد الموقف الفرنسي الذي اعتبرته بالغامض، وفي المقابل لم تتطرق إلى التصريحات المتنافضة لرئيس حكومة إسبانيا بتفادي الحديث عن الحكم الذاتي في الأمم المتحدة. ورغم كل التوتر الذي رافق العلاقات بين باريس والرباط طيلة الثلاث سنوات على خلفية ملفات كثيرة ومنها فرضية تجسس المغرب على الرئيس الفرنسي ببرنامج بيغاسوس، تستمر باريس هي الضامن الحقيقي لتفادي فرض أي حل في نزاع الصحراء من طرف مجلس الأمن قد لا يكون في صالح المغرب.
وباستعراض مواقف كل من إسبانيا وفرنسا تجاه العلاقات مع المغرب والجزائر، يتضح كيف ينهج البلدان السياسة البراغماتية في الخطاب تجاه كل واحد. وهذا يتجلى في إبداء نصف المواقف دون اتخاذ الموقف النهائي، وفي الوقت ذاته التلاعب بالمصطلحات. وتبقى النتيجة هي: عدم تبني إسبانيا الحكم الذاتي أمميا، لكي ترضي الجزائر ولا تغضب المغرب، وبدورها لا تتراجع فرنسا عن دعم الحكم الذاتي ولا تعلن دعم مغربية الصحراء حتى لا تغضب الجزائر. وبهذا، يتبنى البلدان سياسة الولايات المتحدة، ومن ضمن سياسة واشنطن تجاه المغرب والجزائر أنها تصفق للحكم الذاتي في الرباط وتؤكد تقرير المصير في الجزائر.