– بدأت الأزمة الاقتصادية في الولايات المتحدة تحت إدارة الرئيس السابق جورج دبليو بوش، في أعقاب انهيار بنك “ليمان براذرز”. وجاء ذلك نتيجة للعولمة غير المنظمة وأيديولوجية الليبرالية الجديدة التي تضع الأسواق الربوية والتعاملات المصرفية في الخارج والمال من أجل المال فوق سلطة الدولة. إنها أيديولوجية تتجاهل المواطنين حتى ولو كانوا يتضورون جوعا.
في تلك الفترة -أي بين 2007 و 2009 – أصدرت بضعة كتب: “تغيير العالم”، “مديح السياسة”، “النضال من أجل عالم أفضل” و “داخل الإعصار”، ويتناول كل منها مخاوفي من خطر عدوى الليبرالية الجديدة علي عملة “يورو” بل وعلي الاتحاد الأوروبي ذاته.
لقد دفع الرئيس الأمريكي رونالد ريغان ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر عجلة هذه السياسة النيو ليبرالية الكارثية -التي استمرت لاحقا علي أيدي الزعيم “العمالي” الزائف توني بلير-، وأصبحت العواقب السلبية لهذه السياسة الآن واضحة جلية للجميع.
ونظرا للروابط العميقة بين أوروبا والولايات المتحدة، كان انتشار الليبرالية الأمريكية الجديدة إلى الاتحاد الأوروبي -وخاصة لمنطقة اليورو- أمرا لا مفر منه.
عندما بدأت الأزمة في الاتحاد الأوروبي كانت المستشارة أنغيلا ميركل تحكم ألمانيا. ويذكر أنه على الرغم من كونها “لوثرية”، كانت ميركل ناشطة سابقة في الحزب الشيوعي في ألمانيا الشرقية. وبعد سقوط جدار برلين، عارضت ميركل مسار إعادة توحيد ألمانيا الذي ساهمت فيه الدول الأوروبية.
وكما هو معروف، كانت اليونان الضحية الأولى للأزمة، ورغم كونها مهد الحضارة الأوروبية -وبالتالي تستحق معاملة أفضل- إلا انها حصلت على عكس ذلك.
فقد استجابت المستشارة الألمانية -وهي حليفة الليبراليين المحافظين المتطرفين منذ فترة طويلة- إلي متطلبات السوق. وإستمر الوضع في اليونان -حيث احتلت البنوك الألمانية مكانة متميزة- في التدهور إلي حين أقدمت علي دفع الثمن الباهظ الذي طالبتها به “الترويكا”، وهي الهيئة المؤلفة من كبار الدائنين لليونان: البنك المركزي الأوروبي، صندوق النقد الدولي، والمفوضية الأوروبية.
في هذه الأثناء، وفي غياب المساعدة المالية، سقطت ما تسمى “الدول الطرفية” في منطقة اليورو في دوامة الأزمة، فتلت اليونان كل من إيرلندا، والبرتغال، وأسبانيا، وإيطاليا (ثالث أكبر اقتصاد في أوروبا)، ثم قبرص التي إنهارت بصورة مثيرة للدهشة. كما جاءت فرنسا لتضاف إلى هذه القائمة.
كل ذلك يتلخص في سياسة التقشف الإجرامية التي تفرضها ألمانيا وصندوق النقد الدولي والمفوضية الأوروبية برئاسة البرتغالي جوسيه مانويل باروسو، فضلا عن مدير البنك المركز الأوروبي الإيطالي ماريو دراغي.
لقد أصبح أكثر من واضح أن التقشف يشجع الأسواق الربوية البحتة وأولئك الذين مجرد يقفون وراءها.
كذلك أن التقشف يطمس الدول وشعوبها، لا فقط في دول جنوب أوروبا المسماة بـ “الهامشية”، فأنظر إلي هولندا وفرنسا وألمانيا. وكان لا بد أن تصل الأزمة إلى ألمانيا أيضا كما تنبأ العديد من الاقتصاديين بما فيهم الحائزين علي جائزة نوبل للإقتصاد جوزيف ستيغليتز، و بول كروغمان.
وهكذا تعاني ألمانيا حاليا بسبب سياسة التقشف التي قلصت العديد من أسواقها في الدول الأوروبية، وهي التي تمثل 50 في المئة من صادراتها. وإذا تم الإستمرار في التقشف، فسوف تدخل ألمانيا نفسها حالة من الركود.
لقد أدرك الرأي العام الأوروبي ضرورة وإلحاح تغيير السياسة الحالية والطبقة السياسية الحالية التي برهنت علي عدم كفاءتها.
فالواقع هو أن الأحزاب الحاكمة الحالية في دول الاتحاد الأوروبي هي في معظمها محافظة متشددة وغير قادرة على استيعاب هذا الوضع الحرج. والواقع أيضا هو أن الأطراف التي بنت الاتحاد الأوروبي -الاشتراكيون، الاشتراكيون الديمقراطيون، العماليون، والديمقراطيون المسيحيون- لم تعد تمارس السلطة الآن.
الاستثناءات الوحيدة فرنسا وإيطاليا الآن، حيث أعيد انتخاب الرئيس جورجيو نابوليتانو على الرغم من عمره وحيث يترأس انريكو ليتا الحكومة الإيطالية الجديدة. فأعلن كل من ليتا والرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند صراحة عن معارضتهما للتقشف وعزمهما على استعادة دور الدولة في السيطرة على الأسواق، وليس العكس.
لقد أعرب المواطنون في جميع البلدان الأوروبية عن معارضتهم الصاخبة لـ “الترويكا”، والأسواق والسياسيين الزائفين والحكومات الملتزمة بالتقشف.
لقد أصبحت “دولة الرفاه” (نتاج حقبة ما بعد الحرب العالمية) وكذلك الديمقراطية كما تصورناها، ناهيك عن سيادة القانون.. أصبحت كلها معرضة للخطر، بل وخلقت الحاجة إلى تحول سياسي عميق وفوري.
والآن نواجه معضلة واضحة: إما محاربة البطالة وانتشار الفقر والركود دفاعا عن دولة الرفاهية بمعناها الأوسع، أو سقوط الإتحاد الأوروبي في الهاوية إذا انتظرنا فترة طويلة.. وهذا سيكون مأساويا لا بالنسبة للولايات المتحدة الحليفة فقط، ولكن للعديد من دول العالم التي ستعاني أيضا كالصين، وروسيا، واليابان، والبرازيل، والهند، والمكسيك، وهلم جرا.
يحدوني الأمل في أن هذا لن يحدث. فالعالم بالتأكيد لا يرغب في اختفاء الاتحاد الأوروبي، وهو المشروع السياسي الأكثر إبتكارا والذي أتي بالكثير من الفوائد لشعوب دوله.
انهيار الإتحاد الأوروبي يمكن أن يفتح الباب أمام صراع عالمي.. وسيمثل زواله إنحدارا للحضارة لا يمكن قبوله، ومن شأنه أن يعود بنا أكثر من قرن للوراء. ليسود إذن الحس السليم والشجاعة.