نجح المرشح اليساري غوستافو بيترو في الفوز برئاسة كولومبيا هذا الأحد، وبهذا يتمكن أول يساري من تولي رئاسة هذا البلد الذي يوصف “بإسرائيل أمريكا اللاتينية”. ويحمل الفوز تغييرا في المنطقة التي أصبحت يسارية في انتظار التحول الكبير في البرازيل بعودة الرئيس السابق لولا دي سيلفا. ويتزامن كل هذا مع التطورات التي يعيشها العالم جراء الحرب الروسية ضد أوكرانيا.
وتاريخيا، حكم اليمين بمختلف توجهاته كولومبيا، وهي تقريبا الدولة الوحيدة التي تشهد انتخابات ديمقراطية راسخة عكس الكثير من دول المنطقة التي كانت مسرحا لعدد من الانقلابات العسكرية. غير أن الاستقرار الديمقراطي كان دائما مهددا بالمواجهات بين المليشيات اليسارية واليمينية والتي تسببت في مقتل المئات الآلاف من المواطنين وكأنها حرب أهلية، وسجلت خروقات مروعة وفظيعة لحقوق الإنسان. وتدريجيا، نجحت كولومبيا في إدماج المقاتلين اليساريين في المشهد السياسي للبلاد. ويتوج هذا المسلسل بنجاح غوستافو بيترو في الانتخابات الرئاسية الأحد 19 يونيو 2020 بأكثر من 50% من الأصوات وبأكثر من 11 مليون صوت، الأعلى في تاريخ الانتخابات في هذا البلد. وحدث هذا في مواجهة المرشح الشعبوي رودولفو هيرنانديث الذي قبل مباشرة بالهزيمة عكس مرشحين شعبويين في دول أخرى عادة ما يشككون في الانتخابات عندما لا تكون في صالحهم.
ويعد الرئيس الجديد لكولومبيا رمزا لعملية إدماج المقاتلين، فهو قادم من الجماعات المسلحة اليسارية وبالضبط من حركة إم 19، ونجح في التأقلم مع الحياة الديمقراطية عندما انخرط في رئاسة بلدية العاصمة بوغوتا وانضم إلى مجلس الشيوخ وترشح الى الرئاسة ثلاث مرات، ليكون الفوز في المرة الثالثة من خلال التحالف “العقد التاريخي” الذي ضم هيئات يسارية متعددة.
وتحمل نتائج هذه الانتخابات تغييرات كبيرة على المستوى الوطني، ولكن الأهم هي التغيرات الجيوسياسية التي تحملها على مستوى أمريكا اللاتينية التي تتعزز بوصلتها نحو اليسار.
وطنيا، تعد هذه الانتخابات تعزيزا للديمقراطية في كولومبيا بما يعني ذلك من إدماج مختلف الحركات المسلحة وأساسا الحركات الاحتجاجية التي ظهرت خلال السنوات الأخيرة نتيجة الفوارق الاقتصادية التي شهدتها البلاد بسبب السياسات الليبرالية المتوحشة. وهذا سيمنح البلاد مزيدا من الاستقرار السياسي الذي ينقصه فقط القضاء على كارتيلات المخدرات.
غير أن التغيير الكبير هو الذي ينعكس على مجموعة أمريكا اللاتينية. تاريخيا، تعتبر كولومبيا قلعة اليمين المحافظ بل والمتشدد في بعض الأحيان مع رؤساء مثل ألفارو أوريبي. وتتم تسميتها في أمريكا اللاتينية من طرف بعض السياسيين والخبراء ب “إسرائيل أمريكا اللاتينية” لكونها كانت دائما تدور في فلك الولايات المتحدة ومقدمة لتنفيذ مخططاتها التاريخية في المنطقة. وتسمية “إسرائيل أمريكا اللاتينية” تعني أنها دولة معزولة في محيطها الإقليمي مثلما حدث مع إسرائيل في الشرق الأوسط قبل عملية التطبيع من طرف بعض الدول، وهي عملية تشمل الأنظمة أكثر منها الشعوب، مثلما كان يحدث في كولومبيا حيث غالبية الرأي العام كانت تتحفظ أو ترفض الانخراط في المخططات الأمريكية. وكانت كولومبيا دائما قاعدة محتملة لأي تدخل أمريكي ضد فنزويلا، حيث كان البيت الأبيض يفكر في إنهاء حكم اليسار نيكولاس مادورو سنة 2019 انطلاقا من الأراضي الكولومبية. وكادت الحرب أن تندلع بين كولومبيا وفنزويلا منذ ثلاث سنوات لهذا السبب. وكانت كولومبيا دائما ضمن المعرقلين النشطاء لعمليات الاندماج في أمريكا اللاتينية بسبب مواقفها في الهيئات الإقليمية. ورغم التسمية، فكولومبيا كانت من الدول التي اعترفت بفلسطين كدولة سنة 2018.
وبعد نجاح اليسار في الفوز برئاسة البلاد، تصبح غالبية أمريكا اللاتينية في يد حكومات يسارية، حيث شمل التغيير دول رئيسية ومنها المكسيك التي يحكمها اليساري لوبيث أوبرادور على أبواب الولايات المتحدة. وكانت كولومبيا والمكسيك البلدان الوحيدان اللذان لم يحكم فيهما اليسار منذ بدء الانتخابات الديمقراطية في المنطقة، ولهذا كان انتخاب أوبرادور منعطفا سياسيا حقيقيا، واكتمل المنعطف الآن بفوز المرشح اليساري بيترو في كولومبيا.
وامتدت دينامية التغيير الى التشيلي التي يحكمها اليسار الذي يوجد على يسار الحزب الاشتراكي بعدما نجح المرشح الشاب الثلاثيني غابرييل بوريك في الفوز بالرئاسة السنة الماضية. كما شهدت دول أخرى عودة اليسار مثل الأرجنتين وبوليفيا والبيرو ونيكاراغوا والهندوراس وكوستاريكا. ويبقى التغيير الكبير المرتقب هو ما قد تسفر عنه الانتخابات الرئاسية المقبلة في البرازيل، حيث تشير كل استطلاعات الرأي الى فوز كبير للمرشح اليساري لولا دي سيلفا على حساب اليميني المتشدد بولسورانو. في حالة الفوز، وهو معطى أصبح تقريبا واقعيا، وسيعني دخول أمريكا اللاتينية مرحلة جديدة تتميز بوجود عملاقين يساريين المكسيك والبرازيل وسيكون له أبلغ التأثير وسيتجلى في:
أولا، تسريع عملية الاندماج الإقليمي ليشمل كل أمريكا اللاتينية للحد من نفوذ الولايات المتحدة، لاسيما وأن الرئيس المكسيكي أوبرادور يراهن على التوجه اليساري ليكون عاملا في مخاطبة واشنطن ومنح المنطقة استقلالية في اتخاذ القرار. وتحمل كل الحركات اليسارية شعار الحد من النفوذ الأمريكي.
ثانيا، ستعمل دول المنطقة على الاستمرار في تعزيز العلاقات مع كل من الصين وروسيا لاسيما وأن البرازيل كانت دولة نشيطة في دول البريكس الذي يضم جنوب إفريقيا والصين والهند وروسيا علاوة على البرازيل. ويحدث هذا لتطور في وقت يعيش العالم تغييرات كبيرة نتيجة الحرب الروسية ضد أوكرانيا. وكانت روسيا قد أعلنت أنه من حقها التواجد العسكري في أمريكا اللاتينية إذا اتفقت مع دول معينة، في إشارة الى كوبا وفنزويلا، وقد يساعد التوجه اليساري في المنطقة على القبول المبدئي بالتواجد الروسي أو فقط التلويح به لمنع دول المنطقة استقبال قواعد عسكرية أمريكية في حالة عودة اليمين الى السلطة مستقبلا.