الوزن الجيوسياسي لمصر في مهب الريح/د. حسين مجدوبي

الرئيس عبد الفتاح السيسي

خلال فترات زمنية طويلة، شكّلت مصر ثقلا جيوسياسيا، سواء في القديم بفضل حضارتها الفرعونية، أو الوسيط بثقلها في العالم الإسلامي، أو خلال العقود الأخيرة بعد تشكل العالم العربي، غداة استقلال معظم دول العالم. وكانت في لحظات معينة صانعة لأحداث تاريخية كبرى مثل، تأميم قناة السويس، الذي كان رصاصة الرحمة على الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية والبريطانية.

نعم، الانهيار الفعلي للإمبراطورية البريطانية كان في الحرب العالمية الثانية، ولكن الانهيار الرمزي، حدث مع تأميم قناة السويس عندما سيطرت القاهرة على الشريان الذي كان يربط الأراضي التي لا تغيب عنها الشمس. وعليه، أين مصر جيوسياسيا في الوقت الراهن مع هذا الثقل التاريخي وسط الأمم؟

مثل كل الدول التي تفتقد للديمقراطية، ويسود فيها الحاكم لسنوات طويلة على كرسي السلطة، ويربط مصيره بمصير الوطن، كأنه تجسيد له، تفتقد للقرار الجيوسياسي الحكيم بسبب هيمنة رؤية شخص واحد والحاشية التي حواليه، وتكون عملية الإرضاء متسلسلة، ويغيب النقد البناء الذي يُعدّ البوصلة التي تقود الوطن نحو الطريق الصحيح. ومنذ مجيء عبد الفتاح السيسي إلى السلطة في الظروف غير الشفافة، فقدت مصر الكثير من وزنها الجيوسياسي. وهكذا، وبعيدا عن ثقافة الشعارات الرنانة وصفقات الأسلحة التي لن تفيد مصر، في الوقت الراهن، في أي شيء، يمكن التركيز على ثلاث قضايا تبرز هذا الضعف والتراجع، واعتمادا على التسلسل التاريخي لهذه القضايا نجد:
*
في المقام الأول، انجرار مصر إلى الانخراط في حرب «عاصفة الحزم» ضد اليمن، فقد انخرطت في مشروع دول الخليج العربي بزعامة العربية السعودية. وهذا يحصل لأول مرة، فقد كانت مصر هي صاحبة المبادرة في الكثير من الملفات، لكن حرب اليمن تعتبر منعطفا تاريخيا. فقد أصبحت أداة من أدوات الرياض وأبو ظبي، مقابل مساعدات مالية معروفة شعبيا بـ»الرز»، أي وصف السيسي للمساعدات المالية المقبلة من الخليج. وعلى الرغم من عدم إرسال قوات كبيرة وعلنية إلى ساحة الحرب، والاكتفاء بمشاركة محدودة مثل بعض الربابنة وقوات كوماندوز خاصة، فقد انخرطت دولة السيسي في دعم والدفاع عن تصور الحرب في المنتديات الدولية. وبعد قرابة خمس سنوات، انهزمت «عاصفة الحزم» بعدما لم تنجح جيوش الدول المشاركة في حسم الحرب لصالحها، وجراء هذا، لحقت مصر هزيمة رمزية حقيقية لوزنها.

في المقام الثاني، ضمن الشعارات التي رفعها عبد الفتاح السيسي وأنصاره إبان الوصول إلى السلطة، في الظروف غير الشفافة، هو منع إثيوبيا من جعل بناء سد النهضة يمس الحقوق المائية لمصر، وهي حقوق أزلية إلى مستوى استعمال المؤرخين منذ القدم مقولة «مصر هبة النيل»، لقد أصرت إثيوبيا على بناء السد وستبدأ في ملئه بمياه النيل، ما سيجعل منسوب المياه الذي تحصل عليه مصر يتضاءل بشكل لافت للنظر. وسيحصل لمصر مثلما حصل لذلك الشخص الذي كان يعيش في رفاهية بسبب مرتبه العالي، وفجأة وجد نفسه بمرتب ضئيل خمس مرات أقل، لا يكفيه لمواجهة أعباء الحياة. ورغم الإدارة العسكرية والرتب العسكرية العالية للسيسي، وحصول البلاد على عتاد عسكري كبير من فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، فالدولة المصرية في الوقت الراهن لا تستطيع عسكريا الدفاع عن الحقوق التاريخية للوطن المصري في مياه النيل. ولا تستطيع الترسانة العسكرية المصرية، تنفيذ أي عمل عسكري قادر على تدمير، أو تجميد سد النهضة الإثيوبي، لأنها ترسانة محدودة التنفيذ جغرافيا. وبعد التهديد العسكري في السابق، انخفضت حدته في الوقت الراهن، وكأن إدارة السيسي قبلت بالواقع المرّ بسبب ضعفها.

*ويعد الملف الثالث شائكا، إذ تشكل ليبيا عمق الأمن القومي المصري، وكانت القاهرة دائما ترى في النفط الليبي خزانا هي الأولى بالاستفادة منه، ليس من باب الاستحواذ عليه، بل الأفضلية في اقتنائه. لكن القاهرة فقدت ليبيا ووجدت على حدودها الشرقية الجار التركي المزعج لها، الذي يتمدد في شمال افريقيا عبر بوابة الاستثمار والمبادلات التجارية، وأخيرا بالدعم العسكري لحكومة الوفاق في ليبيا. لقد انخرطت القاهرة بعد وصول السيسي إلى الحكم في مخططات الثورة المضادة ضد الربيع العربي، التي تقودها أبوظبي والرياض ولاسيما بعد استيلاء ولي العهد محمد بن سلمان على مقاليد السلطة في السعودية. ومن ضمن المخططات التي قبلت بها القاهرة مخطط أبو ظبي، الرامي إلى تنصيب حاكم عسكري في طرابلس، وهو خليفة حفتر، وفي حالة الفشل تقسيم ليبيا إلى شرق غني بالنفط مرتبط بمصر، وغرب ضعيف في مهب الرياح. لم تأخذ القاهرة بعين الحسبان والاعتبار العوامل الخارجية في عالم سريع التغير، وجاء التدخل التركي المفاجئ، ومعه بدأت الخريطة العسكرية والسياسية في ليبيا تتغير بالتقدم الكبير لحكومة الوفاق وتقهقر حفتر حليف السيسي. ولا تستطيع مصر القيام بأي دور، إذ لا يمكن للجيش المصري الانخراط عسكريا في ليبيا، مخافة ما يجري في سيناء ومن احتمال ثورة داخلية لسوء الأوضاع. وبينما نجحت تركيا في التغلغل في ليبيا، اكتفت مصر بترديد جمل رنانة في وسائل الإعلام، خاصة الخليجية «تركيا تدعم الجماعات المتطرفة في ليبيا»، ثم «تركيا تعيد الاستعمار العثماني للعالم العربي».
في غضون ذلك، واستنادا إلى منطق الربح والخسارة، ماذا حققت الإدارة العسكرية بقيادة السيسي للأمن القومي المصري، بعد ارتفاع المديونية، وما يعانيه المواطن المصري من أجل لقمة العيش، وتراجع البلاد جيوسياسيا، بل تحولت إلى مجرور به في مخططات أبو ظبي والرياض!

يمكن تلخيص مأساة الوضع الجيوسياسي لمصر حاليا في مثالين، حصول شركة Turkish Petroleum على حقوق التنقيب عن الغاز والنفط قبالة السواحل الليبية مؤخرا، لتحرم الجانب المصري من النفط الليبي. ثم، التعليق المرير «هل ستصل مياه النيل إلى المدينة التي يشيدها السيسي»، في إشارة إلى فقدان مصر مستقبلا حصة كبيرة من مياه النيل.

Sign In

Reset Your Password