ما يشبه التقديم
تنبني رواية “قط أبيض جميل يسير معي”* للأديب والسينمائي المغربي يوسف فاضل على صوتين ومسارين متداخلين ومتباعدين في الآن نفسه. المسار الأول هو مسار بلوط المهرج المستهتر الذي كان يقتات من إضحاك الناس بالساحات العمومية ويشتري النكت بالجملة إلى أن قادته إحدى الصدف إلى قصر ملكي بمدينة مراكش. أما المسار الثاني فمرتبط بحسن، ابن بلوط، الفنان الشاب المرهف والمتمرد الذي لا يتردد في أن يوجه سهام نقده ذات اليمين وذات الشمال. و تتطور الأحداث في مدى زمني محدود وتقدم لنا الوقائع بشكل لولبي و على شكل يوميات أحيانا وتتكفل الإسترجاعات بجعلنا نقترب أكثر من الشخصيات لنعرف ما الذي حدث بالضبط.
ليس هنالك مهرج سعيد
“أنا مهرج، نعم، يؤكد بلوط، ولكن خلف قناع التهريج الساخر تقبع نقمة عميقة. حقدي على البشر لا حدود له”(ص22) ثم يضيف دون تلعثم : “أنا مهتم بأمر واحد: إرضاء جلالته” (ص16). وعن سلطة الضحك وتأثيره القوي يلاحظ مهرج السلطان ما يلي :”إنه فعلا لأمر غريب أن تراقب جماعة تضحك. تبدو الأجساد وقد أفلتت من كل مراقبة”(ص15). وقد سهل علينا مقام بلوط بالقصر، نحن القراء، أن نتلصص على مؤامرات البلاط وعلى بعض الخيبات والفجائع التي تعرفها القصور وطبيعة التنافس غير الشريف بين أعضاء الحاشية وعلى الطرق التي يتم بها إذلالهم : “النزوات جزء من حياة القصر الملكي،يؤكد المهرج، كما الجدران والحديقة والصهريج” (ص21). وبفعل عامل القرب و”وضعه الإعتباري”، تكونت لدى بلوط جملة خلاصات فيما يخص التدبير السياسي للبلاد يعرض بعضها بكل ثقة في النفس:”ملكنا ملك عظيم لكنه مستبد(…)هذه القسوة هي التي أقنعت خصومه ومعارضيه بلا جدوى محاولاتهم الانقلاب عليه” (ص 43). لكن ما لم يكن يعلمه هذا المهرج هو أنه هو الآخر سيكون موضوع نزوة وغضبة ملكيتين شككتا في جدوى حرفته حيث أنبه الملك وعنفه سائلا إياه بعجرفة لا متناهية: “هل سمعت أن الملائكة ضحكت؟ ليس أقبح لابن آدم من الابتعاد عن الوقار. ماذا يعجبك في آدمي تصدر عنه تكشيرات تشوه الخلقة التي صوره تعالى عليها ويصدر أصواتا كالنهيق؟”(106). لقد التقت هذه الغضبة في تبريراتها مع ما قاله قس بشع المظهر بخصوص الضحك والابتسام في الرواية الشهيرة “اسم الوردة” للمبدع الإيطالي أمبرتو إيكو. وقد وجد بلوط نفسه مجبرا على العودة إلى بيت الزوجة الأولى بعد أن عاش لمدة مع الدريسية بائعة التوابل اللحيمة و بعد أن تزوج بزوجة ثالثة كانت تفرق بينهما سنوات عديدة فأنهكته طلباتها هي وأمها. عاد، إذن، ليتجرع مرارة الهوان و ليتأكد من أن علاقته بابنه حسن كانت ولازالت علاقة بالغة التوتر والحدة.
عبورحسن للصحراء
“حلمت بالصحراء. كالتي تحاصرني الآن. تقريبا” (ص7) هذا ما يخبرنا به حسن في أول جملة تقترحها علينا الرواية. وقبل الوصول إلى هذه الصحراء المريبة كان حسن قد أعلن بصرامة، وعلى النقيض مما صرح به أبوه: “أنا لست مهرجا” (ص55). وبالصحراء التقى دون سابق ترتيب مع مجندين اقتيدوا مثله، دون أن يستشيرهم أحد، إلى المجهول، “نسير و لا نتوقع شيئا محددا، يضيف حسن. لا نعرف ما علينا توقعه” (ص179). وهو يقر بأن رؤيته بخصوص هذا الموضوع غائمة:”إذا ما سئلت عن موقفي حول هذه الحرب فلا أعرف كيف أرد. ليس لدي موقف. (…)ولكنني أعرف أنني لا أريد أن أموت. وفوق هذا لا أريد أن أدافع إلا عن قصصي التي أبتكر وأنا ممدد في بخار صالة الحمام. وعن زينب التي أحب مثلما لم يحب أحد إمرأة” (ص ص186/187).وكان حسن قد تعرف على زينب في برنامج تلفزيوني: ” جاءت زينب. كالغيث بعد طول جفاف، كالهدية، كالواحة بعد الصحراء” (ص164) وتزوجا و عاشا معا حياة بسيطة لكنها غنية بلحظات وتفاصيل جميلة. فمثلا حينما، ذات توتر، فقدت زينب صوتها “اهتدت إلى فكرة الكراس الصغير تدون فيه حاجياتها. (…) كأنما أدخلنا على حياتنا معنى جديدا، وترفا كنا في حاجة إليه. كلامها بالكتابة بدا لي نوعا من الترف البليغ. امتياز. ازداد اعجابي بها، وتعلقي بها. رغم أن خطها لم يكن جذابا” (ص245). وحملت زينب وفقدت حملها في سياق مشبوه و حملت ثانية، لكن هذه المرة حينما كان حسن يرابط بالصحراء، وذلك بعد زواجها بالفاتحة من طبيب غير متزن، تمكن من إقناعها بجدوى أن تترشح لانتخابات ما. “على الجدران صور زينب في هيئتها الجديدة، في ابتسامتها المرتبكة. التفت، يقول حسن، ورأيت قطا أبيض جميلا يسير إلى جانبي، ويطل علي كأنما يناديني، وكأنما يبتسم لي” (ص252) . ومباشرة بعد هذه الصدمة المريرة التي ربما خفف حضور القط الأبيض الجميل من وقعها، كان حسن على موعد مع تجربة عنيفة وسوريالية ومزلزلة أشركنا فيها بهذه الطريقة:”بهو البيت عامر بالمعزين المتحلقين حول تابوت من خشب. (…) الألواح محكمة الإغلاق بالمسامير. وبداخله أنا، أو محمد علي بدون رأس، أو نافع بدون رجل أو ابراهيم الذي قد يكون سقط في شرك آخر. أمي كانت تبكي، علي وربما علينا نحن الأربعة، محمد علي وإبراهيم ونافع وأنا” (ص250). لقد كانت نهاية المجندين مأساوية هم اللذين كانوا أبطالا بدون مجد في حرب لم يحسوا للحظة بأنها تعنيهم. ولم يجد حسن مناصا من أن ينصاع ويستسلم: “(…) لن أندم على شيء. وبالأخص على الذهاب غدا إلى المقبرة لحضور جنازتي” (ص254). وكذلك كان.
جنرال لا يخاف الملك ويستهويه عصر الزيتون
والمساران معا ، مسار الأب ومسار الإبن، يهيمن عليهما شعور ضاغط بالرتابة والحنق والغبن ، كما أن فردا من أفراد حاشية الملك تولى هو الآخر الربط بينهما. يتعلق الأمر بجنرال غريب الأطوار اسمه بوريشة غادر عاصمة البلاد واستقر بالصحراء ليشرف على تدبير حرب تكاد تكون منسية وانتهى به الأمر بعصيانه لأوامر الملك. يقول حسن عن هذه الشخصية: “الجنرال يوجه مسيرتنا من ضيعته وفي الوقت نفسه يعصر الزيتون وحوله ثلة من ضباطه يفسر لهم منافع الزيتون ضد إمساك البطن” (ص179). وبينما كان الجنرال مأخوذا بممارسة هوايته الغريبة: “(…) فإن العدو كان يطلق علينا النار و لا نعرف كيف نرد عليه لأن الجنرال لم يقل لنا بعد كيف نرد عليه”. (ص 158). أما بخصوص هذا العدو فلا يجد حسن أي حرج في أن يؤكد: “إنه يلبس لباسنا نفسه ويتكلم اللغة نفسها، ويحلم الأحلام نفسها التي تراودنا” (ص158). وقد مات الجنرال بوريشة هو الأخر في انفجار مشبوه ولم يحزن عليه الجنود إذ كان “(…)بعضهم يؤدون مبلغا معينا كي يضعهم الجنرال على قائمة الذين يشتريهم العدو ليكونوا لائحة أسراه” (ص182) وكان ذلك هو السبيل الوحيد لتتوصل أسرهم بمعاشاتهم وتحتفظ ببعض الأمل في لقائهم مجددا.
خلاصات مؤقتة
إن رواية “قط أبيض جميل يسير معي” التي لم تفز، عن سبق إصرار وترصد، بجائزة المغرب للكتاب تقوم ، بحدة وذكاء، بتصفية حساباتها مع فكرة الحرب وفظاعاتها وتقدم لنا شخصية ديكتاتورمستبد عابرة للأزمنة وصالحة لكل المجتمعات وقد أضاءتها وعرت خباباها شخصية مهرج ذي ملامح كونية هو الآخر. هي رواية تستمد قوتها من قوة التفاصيل وجماليتها من لغتها المرهفة والدقيقة ومن اعتمادها على السخرية الدفينة و المفارقات غير المتوقعة وعلى تقنية التقطيع السينمائي وعلى المرح والفكاهة السوداء، و هي تشد أنفاسك لجرأتها وصرامة أحكامها وتجعلك تتلذذ بصورها المبتكرة وتعابيرها الماكرة كما تجعلك تبتسم أحيانا وكأن قطا أبيض جميلا اختار أن يسير إلى جانبك.
* رواية، دار الآداب / نشر الفنك، 2011