خلال المدة الأخيرة، بدأ كل من المغرب والجزائر يعتبران أنفسهما قوى إقليمية، ويأتي هذا الخطاب في إطار الصراع القائم بينهما لزعامة شمال وغرب إفريقيا. بينما تكشف معطيات الواقع الجيوسياسي أن لا أحد منهما يتوفر على شروط القوة الإقليمية. ويدعي الخطاب الرسمي في البلدين، أن كل واحد أصبح قوة إقليمية في منطقة شمال افريقيا، وتحول إلى المخاطب الرئيسي للقوى العظمى التي لا تتخذ أي قرار في المنطقة من دون العودة إليه، بمفهوم، الحصول على ترخيص مسبق، أو على الأقل التنسيق، ويتولى محللون وخبراء من البلدين الدفاع عن أطروحة هذا البلد أو الآخر، أحيانا بمعطيات ودلائل بعضها يلامس الواقع والمنطق، وأحيانا بمعطيات تسقط في المبالغة، إن لم نقل الخيال السياسي.
ومفهوم القوة الإقليمية ليس قديما، بل هو من المفاهيم الجديدة في العلاقات الدولية، وعموما يوجد شرطان أساسيان لتحديد مفهوم القوة الإقليمية وهما: أولا، أن تمارس دولة تتصف بالقوة الإقليمية هيمنة في مجال إقليمها على المستوى السياسي والعسكري. ثانيا، أن تكون دولة تتحكم وترسم الملامح الاقتصادية للمنطقة. وعلاقة بالشرط الأول، عادة ما تكون دولة إقليمية متقدمة في الترتيب العالمي للجيوش القوية، وتقوم بتصنيع جزء من عتادها الحربي. وتكون هي المرجع الرئيسي عسكريا لدول جوارها، وبالتالي العسكري. وعلاقة بالشرط الثاني، تكون هذه القوة الإقليمية هي الشريك الاقتصادي الأول، أو ضمن الأوائل لدول جوارها، على مستوى التبادل التجاري والاستثمارات. وإذا تأملنا الوضع الجيوسياسي الحقيقي لكل من المغرب والجزائر، سنقف على معطى رئيسي وهو، عدم توفر أي منهما على الشرطين المذكورين.
لا يعتبر المغرب قوة تجارية إقليمية للدول الواقعة في جواره في المغرب العربي وغرب افريقيا، إذ أن 65% من مبادلاته التجارية هي مع دول الاتحاد الأوروبي، ورغم تصاعد وجوده الاستثماري في القارة الافريقية، فهو لا يعد ضمن المستثمرين الأوائل عالميا في هذه القارة، ولا يمكن للمغرب اكتساب صفة قوة إقليمية تجاريا، إذ تبقى مبادلاته مع محيطه في شمال افريقيا وغربها ضعيفة، وتبقى دون الحضور القوي لدول أوروبية مثل فرنسا وإسبانيا. ولا تتوفر الجزائر على الشرط الاقتصادي لتصبح دولة إقليمية، إذ يقوم جزء كبير من اقتصادها على صادرات الطاقة من نفط وغاز، وأساسا إلى الدول الأوروبية، وإذا قرر الاتحاد الأوروبي مقاطعة الغاز الجزائري، وقتها سيعاني الاقتصادي الجزائري من الانهيار. ولا تتوفر على استثمارات مقبولة في محيط دولها، بما في ذلك في دول مثل تونس والنيجر وموريتانيا، بل تبقى دون الاستثمارات المغربية في افريقيا.
وعسكريا، نتج عن سباق التسلح بين البلدين تطوير جيشيهما، واقتربا نسبيا من مستوى دول جنوب أوروبا، ويحدث هذا لأول مرة منذ قرنين، وبمعنى آخر، لا يمكن لفرنسا وإسبانيا التجرؤ عسكريا على المغرب أو الجزائر، كما كان يحدث في الماضي بما في ذلك الاستعمار. ومن ضمن الأمثلة، كان الغرب يريد ما بين سنتي 2013 و2014 استغلال تطورات الربيع العربي لتكرار سقوط نظام معمر القذافي في الجزائر، لكن الحسابات العسكرية لم تنفع أمام امتلاك الجزائر وقتها نظام إس 400، وكانت أول دولة تحصل عليه وقبل الصين. وخلال أزمة «جزيرة ثورة» خلال يوليو 2002، فرضت إسبانيا في صمت حصارا بحريا عسكريا على المغرب في مضيق جبل طارق، ولا يمكنها الآن تكرار الحصار في أي أزمة بعدما عزز المغرب قواته البحرية بشكل كبير. ورغم كل هذا، لا يمكن اعتبار المغرب والجزائر قوة إقليمية عسكريا، لا يمكن لأي دولة منهما فرض أجندة عسكرية في محيطها، ويضاف إلى هذا، لا توجد صناعة عسكرية في البلدين، علما أن الصناعة العسكرية من الشروط الرئيسية للحديث عن قوة إقليمية، أو على الأقل صنع الذخيرة الحربية حتى لا تبقى الدولة رهينة دول أخرى. كل ما حققه المغرب والجزائر في المجال العسكري، هو كسر الردع الذي انفردت به الضفة الشمالية للمتوسط مدة طويلة، وهذا يعد منعطفا هاما للغاية. وتكون القوة الإقليمية حاسمة بشكل كبير في تطورات الأوضاع في المحيط الذي تنتمي إليه، أو التجمعات التي تعتبر عضوا فيها. وإذا أخذنا الأزمة الليبية، لم تتجاوز مساعي البلدين، المغرب والجزائر، ما هو دبلوماسي، بينما كان صنع القرار العسكري في يد دولتين وهما فرنسا وتركيا، مع دور لافت لتركيا لتؤكد أنها قوة إقليمية في شرق البحر الأبيض المتوسط. في غرب البحر الأبيض المتوسط، توجد قوة إقليمية واحدة وهي فرنسا بحكم قوة اقتصادها، وقوتها العسكرية بما في ذلك السلاح النووي ثم الحق في الفيتو في الأمم المتحدة. والمفارقة أنها كانت قوة ضمن الكبار، وتراجع دورها الآن الى قوة إقليمية ذات بعد عالمي، بعدما كانت قوة عالمية. ولا تعتبر حتى إسبانيا دولة إقليمية، رغم قوة اقتصادها وكذلك قوتها العسكرية المتوسطة التي تفوق كلا من المغرب والجزائر. وعندما وقعت لها مشاكل مع المغرب في ملف الهجرة خلال مايو ويونيو 2021 هرعت الى الاتحاد الأوروبي للبحث عن الدعم. وعندما نشبت مشاكل اقتصادية وسياسية لحكومة مدريد مع الجزائر منذ مارس 2022 على خلفية نزاع الصحراء وقررت الجزائر تجميد الواردات من إسبانيا، هرعت إلى الاتحاد الأوروبي طلبا للدعم، ولم تستطع اتخاذ أي قرار لتغيير الواقع، وهذا يعني عدم امتلاطها قوة الردع كقوة إقليمية.
مفهوم القوة الإقليمية مرتبط بنوعية دورها في المحيط والجوار والإشعاع الدولي، وهي الآن تتوفر في بعض الدول مثل تركيا بالدرجة الأولى في الشرق الأوسط لوزنها التجاري والعسكري بعد القفزة النوعية في الصناعة الحربية، ثم حالة البرازيل في جنوب القارة الأمريكية، وكذلك جنوب افريقيا في النصف الجنوبي من القارة الإفريقية.