أشير بعبارة «اللجان في كل مكان» إلى الشعار المعروف والذي كان يردده بهيستيريا زائدة خوفا أو طمعا أو تبجيلا أنصار الزعيم الليبي معمر القذافي أينما حل وارتحل. وهذا ليس شعارا فقط بل إن اللجان الشعبية كانت تمثل، ظاهريا على الأقل، بنية النظام «الجماهيري» الأساسية ومصدر مشروعيته القاعدي، فلا شيء يقرر نظريا دونها أو ضدها. مناسبة هذا المقال، هي تكوين المغرب للجنة جديدة تدعى «لجنة النموذج التنموي الجديد».
وطبعا فإنه بدل منهجية اللجان الغوغائية والتي لا سلطة بيدها إلا سلطة المديح يظهر أن المغرب اختار منهجية اللجان «التكنوقراطية» والتي لها سلطة الكفاءة والعلم ولكن يبقى هناك رغم كل شيء بعض الشبه باللجان القذافية فهي تشترك معها في عددها الكبير وفي لا تمثيليتها الصارخة وفي الاعتقاد بأنها حل للمشاكل وعلاج لكل الأعطاب. أعلن الملك محمد السادس في خطابه أمام البرلمان في شهر أكتوبر/تشرين الاول من سنة 2018 قراره بتكليف لجنة خاصة، مهمتها تجميع المساهمات المتعلقة «بمشروع النموذج التنموي الجديد» والتي تُعِدها مجموعة من المؤسسات والفعاليات، «مع ترتيبها [أي المساهمات] وهيكلتها، وبلورة خلاصاتها، في إطار منظور استراتيجي شامل ومندمج».
وفعلا فإن رئيس الحكومة سعد الدين العثماني قد أكد نهاية شهر أيار/مايو الماضي أن «الحكومة أعدت مساهمتها بخصوص مشروع النموذج التنموي الجديد وقدمتها، وساهم في ذلك أعضاء الحكومة». فما الذي طرأ حتى تُخلق لجنة جديدة حوالي سنة فقط بعد إعلان تكليف «لجنة خاصة» بنفس المهمة؟ وهل كان عدم توصل أحزاب الأغلبية إلى توافق حول إيفاء اللجنة بنص موحد لمساهمتها، كاف لإقبارها رغم كل الأمل الذي كان معلقا عليها؟ كان يمكن ان يرسل كل حزب مشروعه الخاص مباشرة إلى اللجنة المكلفة بالتجميع. يبدو أن التخلي عن هذه اللجنة كان سببه الحقيقي، بعد أشهر من خلقها، هو التفسير السياسي الضمني الذي أُعطي لها وهو أن مشروعا جديدا للنموذج التنموي، كان المساهم الأقوى فيه هو الحكومة وأغلبيتها الحزبية، لا يمكن إلا أن يعني في حالة قبوله من لدن القصر ـ ولا يمكن أن نتخيل غير ذلك- مساندة هذا الأخير لبقاء نفس التشكيلة الحكومية بعد الانتخابات التشريعية القادمة. والأنكى هو أنه في حالة تشكل أغلبية حكومية جديدة فهذا قد يكون معناه التخلي عن مشروع النموذج التنموي الجديد اذ الدستور واضح في فصله الثامن والثمانين الذي يقول: «يتقدم رئيس الحكومة أمام مجلسي البرلمان مجتمعين ويعرض البرنامج الذي يعتزم تطبيقه». ولا أحد يمكنه أن يفرض على رئيس الحكومة وزعيم الأغلبية الجديدة أن يقبل برنامجا يندرج في إطار المشروع التنموي للجنة، اللهم الا اذا كانت كل الأحزاب قد خاضت حملتها الانتخابية جاعلة من مشروع اللجنة مشروعها، فأين هي الديمقراطية والتعددية في هاته الحال؟ وما الجدوى حتى من خوض حملة انتخابية تعددية وصراع سياسي يدوم أشهرا طويلة ليعبأ الشعب وراء نفس المشروع؟
إن عدد اللجان والمجالس في المغرب تراكم حتى أصبح كبيرا بل و«مخيفا»، فأغلبها لديه نفس المهام التي تضطلع بها قطاعات حكومية. وهناك من المجالس واللجان من لديه- بقدرة قادر- وعلى الرغم من الدستور، سلطة نافذة وضاربة أقوى بكثير من القطاع الحكومي المعني بل إن هذا الأخير قد لا يُخبر أحيانا بمبادرات وأعمال اللجنة أو المجلس الموازي، حتى أصبح بعض الملاحظين يتكلمون عن الدولة الموازية، واللجان التكنوقراطية إحدى تجلياتها.
ولنعد الآن الى اللجنة التقنية للنموذج التنموي الجديد والتي عين الملك على رأسها السيد شكيب بنموسى، والتي من بين مهامها إعادة الثقة بين الدولة والساكنة لإطلاق الطاقات وتحفيز الهمم للنهوض بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية. لكن ها هو أحد أبرز أعضاء اللجنة الجديدة، رجل الأعمال المستقل كريم التازي والذي شارك في مظاهرات الربيع المغربي الذي قادته حركة عشرين شباط/فبراير سنة 2011، يقول إن فشل النموذج التنموي الحالي لا يكمن في طبيعته بل في انعدام دولة الحق والقانون وهيمنة الرشوة و«الريع الذي هو ركيزة أساسية من ركائز النظام الحاكم» حسب تعبيره. خلص التازي إلى أنه اذا لم يتم استئصال هذه الآفات فإن النموذج التنموي الجديد سيفشل كذلك. وضح التازي أن اللجنة يجب أن تعتبر ذريعة لإعادة الثقة وأنه اذا انحصرت الاصلاحات في الجانب التقني فإنها لن تؤتي أُكلا. هذا مشكل كبير اذن. فهل ستتحول اللجنة إلى لجنة للإصلاح السياسي الجذري للنظام ومن ثم لإرساء دولة الحق والقانون؟ لا يبدو أن النظام يريد ذلك. المتفائلون يدفعون بأن اللجنة الجديدة تتوفر على بعض عناصر المصداقية الإنسانية والسياسية ويعطون كمثال ترأسها من لدن المهندس الكفؤ بنموسى ولكنهم ينسون ـ وبعض النسيان رحمة- أنه كوزير داخلية سابق (2006-2010) كان قد حُضر ونُفذ تحت ولايته أول هجوم خطير على الحريات السياسية منذ رحيل الملك الحسن الثاني وبنفس الطرق التي كان يتبعها ادريس البصري. وأعني بهذا الهجوم، والذي رافقته خروقات جسيمة للقانون، اعتقال قيادتي حزبي البديل الحضاري والأمة في فبراير/شباط 2008. والحزبان ذوا خطاب ديني ليبيرالي اذ هما قريبان من اليسار المعارض بالإضافة إلى اعتقال أعضاء من البيجيدي والحزب الاشتراكي الموحد في إطار نفس «المجموعة الإرهابية» حسب الإعلام الرسمي. حُكم على المعتقلين بمدد سجنية طويلة وصلت 25سنة ابتدائيا و10 سنوات في الاستئناف. كانت تهم الإرهاب والقتل التي توبع بها المعتقلون باطلة طبعا اذ كان الهدف هو وضع الطبقة السياسية تحت الضغط بعد أن كان جلها قد ارتخى وآمن بديمقراطية العهد الجديد. يبدو أن هدف هذا الهجوم الكاسح على سياسيين مسالمين كان هو تمرير خلق حزب دولة جديد هو الأصالة والمعاصرة، ما كان أحد يتخيل أنه سيخلق في نفس السنة، خصوصا وأن المعتقلين الرئيسيين كانا قد طُلب منهما الالتحاق بمشروع الحزب الجديد ورفضا، أياما قبل اعتقالهما وذلك حسب شهادة المعنيين لكاتب هذا المقال، شهادة أكدها لاحقا الناطق السابق باسم البام. ظهر الطابع السياسي للاعتقال والمحاكمة لما أطلق سراح المعتقلين تحت ضغط الشارع في ابريل/نيسان 2011 ليستقبل «الإرهابيون» السابقون من لدن المجلس الرسمي لحقوق الإنسان..