فاز طيب رجب أردوغان برئاسة تركيا في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية التي تواجه فيها مع القومي كليتشدار أوغلو بنسبة تفوق 52% مقابل قرابة 49%. وهذا الفوز يشكل ضربة موجعة للغرب وإسرائيل وارتياحا لكل من الصين وروسيا ودول الشرق الأوسط مثل السعودية وإيران. وهذا الفوز يحمل معاني كبيرة جيوسياسية خاصة وأنه يتزامن مع الذكرى المئوية لتأسيس تركيا على يد كمال أتاتورك.
وتعتبر الانتخابات الرئاسية ليوم الأحد 28 مايو/ايار 2023 في تركيا من أهم الانتخابات الرئاسية التي شهدها العالم خلال القرن الواحد والعشرين للتأثيرات التي ستحملها وما تعنيه في وقت واحد. وهي من حيث التأثير شبيهة بوزن الانتخابات التي قادت دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة، وقادت لولا دا سيلفا الى رئاسة البرازيل في بداية هذا القرن وليس عودته الى الرئاسة في انتخابات خلال نهاية السنة الماضية. فقد ساهم دا سيلفا في جعل البرازيل دولة إقليمية، وتسبب ترامب في تغيير عميق في المجتمع الأمريكي بتعزيز الاستقطاب السياسي. وتتجلى أهمية انتخابات تركيا في أنها تقود إلى تغيير وطني ويمتد بقوة الى ما هو دولي.
ويشكل فوز أردوغان إشكالية أو مفارقة حقيقية للباحثين والمهتمين بالانتخابات على ضوء عدم حدوث تزوير في النتائج، بل جرت في أجواء من الشفافية المقبولة جدا. إذ كيف لرئيس لا يمتلك ملفا حقوقيا أبيض، بمعنى ارتكاب تجاوزات سلطوية خاصة بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة سنة 2016، يستمر في رئاسة بلد يمتلك نخبة كبيرة مثل تركيا. وقد يفسر هذا بتغليب كفة ما جرى تحقيقه في القفزة النوعية في الاقتصاد وفي المكانة التي أصبحت تحتلها تركيا حاليا في المنتظم الدولي.
ويبقى فوز أردوغان بأكثر من أربع نقاط دالا للغاية. فقد تزامنت هذه الانتخابات مع الذكرى المئوية الأولى لتأسيس تركيا الحديثة على يد أتاتورك بعد تفكيك الإمبراطورية العثمانية. وكان يأمل أنصار أتاتورك وهم القوميون الأتراك في توظيف هذه المناسبة التاريخية الكبيرة لاستعادة الدولة من رئيس له ميول دينية، ويلتقي مع الشرق أكثر من رهانه على الغرب الذي كان يحلم أتاتورك بالانتماء إليه.
وتكشف نتيجة هذه الانتخابات كيف تعود الشعوب إلى جذورها وأصولها ودورها التاريخي رغم قوة عمليات التغيير المفروضة قسرا في لحظات تاريخية يعتقد فيها زعيم معين أنه قادر على إحداث منعطف دائم. ويعني فوز أردوغان بالانتخابات الرئاسية هو استمراره في تغيير البنيات العميقة للإدارة التركية في كل قطاعاتها، وهذا بدأ يعطي نقلة نوعية في تشكيل الدولة العميقة التي تغيرت من شكلها القديم وانتهت نهائيا مع المحاولة الانقلابية الفاشلة سنة 2016.
والعودة هنا الى الجذور تعني ارتكاز تركيا على تاريخها الممتد قرونا وعلى هويتها الحقيقية التي تمزج بين الإسلام والحداثة لكي ترسم لنفسها مكانة وسط إقليمها المباشر الذي هو الشرق الأوسط ثم في الساحة العالمية، إذ أن التغيرات العميقة التي تحصل في منطقة شرق العالم أو ما يعرف بالعالم القديم هي نتاج استعادة الحضارات القديمة من تركيا إلى الصين دورها التاريخي.
وبمجرد إعلان النتائج، عم الارتياح عواصم مثل بكين وموسكو وإيران، بل وحتى الرياض التي كانت تنظر وطيلة عقود بعين من التوجس لتوجهات تركيا. وفي المقابل، شكلت هزيمة المرشح القومي الذي يميل إلى الغرب كليتشدار أوغلو جنازة جيوسياسية في الغرب. وبمفاهيم جيوسياسية، إذ تمنح نتيجة الفوز لأردوغان وبفارق أكثر من أربع نقاط قوة معنوية للسير في برنامجه الاستراتيجي في العلاقات الدولية، علما أنه كان بدأ يتردد خلال السنتين الأخيرتين نتيجة تغييرات أثرت على الوضع الاقتصادي للبلد. ويترتب عن هذه الانتخابات الرئاسية ما يلي:
في المقام الأول، تعزيز استقلال القرار السياسي والدبلوماسي في الشرق الأوسط، إذ سيقل تأثير الغرب على دول المنطقة لاسيما في ظل التفاهم الحاصل بين العربية السعودية وإيران بدعم وإشراف من الصين التي لعبت الدور الرئيسي في التقارب بينهما. وستكون مصر مجبرة على إعادة النظر في موقعها في الشرق الأوسط من خلال الانخراط في دينامية التغيير بدل الاستمرار في الرهان الغامض مرة على موسكو ومرة على واشنطن. وقد ينتقل أردوغان الى حلم بناء محور باكستان – إيران – تركيا لتغيير وجه المنطقة كليا.
في المقام الثاني، تشعر إسرائيل بعزلة أكبر من خلال عودة أردوغان بهذه القوة، إذ تتزامن التغييرات في الشرق الأوسط مع فقدان اتفاقيات أبراهام زخمها وتباطؤ دينامية التطبيع. وستستمر إسرائيل في رؤية أردوغان عدوا خطيرا.
في المقام الثالث، تدرك الصين وروسيا أنه يمكنهما الاعتماد على تركيا كقطعة رئيسية في دينامية التغيير في العالم، وهو التغيير الذي يتسارع مع الحرب الأوكرانية – الروسية. وتشترك أنقرة مع موسكو وبكين في ضرورة تغيير النظام العالمي الجديد. ونظرا لمكانة تركيا في قلب الشرق الأوسط، فستكون مساهمتها كبيرة في هذا المسلسل.
في المقام الرابع، سيستمر أردوغان في نهج سياسته الدولية التي تعتمد الاستثمارات الخارجية ثم توقيع صفقات مع دول تحتاج للعتاد العسكري وغير قادرة على شراء السلاح الغربي ولا الروسي. وهذا سيعزز كثيرا من وزن تركيا في المنطقة ومنها إفريقيا والمغرب العربي.
عموما، هذه الانتخابات، وبمفاهيم ومعان جيوسياسية من ضمن الأكثر أهمية في القرن الواحد والعشرين نظرا لمساهمتها في دينامية التغيير في منطقة الشرق وما تشكله من خسارة للغرب.