ربما سيقول البعض «كلنا في الهم شرق» ومتى تعلق الأمر بالخلافات والعصبيات بين العرب، فلا فرق أبدا بين شرق وغرب، لكن وبغض النظر عما تمخضت عنه وساطة الكويت، وعما أسفرت عنه «قمة العلا» في السعودية، ألا يعطي الخليجيون عموما، من خلال تصرفهم مع أزمتهم، مثالا مختلفا ومغايرا بعض الشيء لتعامل المغاربيين مع التوترات التي تعصف بهم؟
لقد بلغت المشاحنات الخليجية حدا غير معقول، حين أخذت بعض دوله قرارا متشنجا بقطع العلاقات مع قطر، ما ضرب في العمق لا الروابط السياسية بين القادة فقط، بل حتى أواصر القربى والجيرة التي رسخت على مرّ العقود بين الشعوب. وبلغ الأمر أقصاه، حين غالى الثالوث الخليجي في تطبيق قراره بعزل دولة عضو من دول المجلس وحصارها برا وبحرا وجوا، بشكل غير إنساني يخالف كل الأعراف طوال أكثر من ثلاث سنوات كاملة، واستفزازها عسكريا مثلما حصل مؤخرا بخرق مقاتلات بحرينية لمجالها الجوي.
ثم لم يحصد، بعد أن لفق لها شتى التهم العجيبة والفريدة والمضحكة في الآن نفسه، أي نتيجة مرتقبة، كأن تتنازل وترضخ لمطالبه وشروطه، التي لا تقل غرابة، لكن ذلك لم يمنع هؤلاء، حتى مع استمرار الحملات الإعلامية العنيفة ضد تلك الجارة، وبقاء الوضع على حاله، من أن يوجهوا لها دائما وأبدا مثلها مثل باقي الدول الأعضاء دعوات للحضور في قممهم، كما كان الأمر في القمة الحادية والأربعين لمجلس التعاون الخليجي، التي عقدت أمس الثلاثاء، بل كان لافتا أن الأمين العام للمجلس خرج ليصرح، في أعقاب لقائه، الأربعاء الماضي، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، لتسليمه دعوة رسمية للمشاركة في تلك القمة، بأنه بحث معه خلال ذلك اللقاء «مسيرة المجلس، والإنجازات التي تحققت لشعوب الدول الأعضاء، خاصة في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والتجارية» مع أن الجميع كان على يقين من أن كلامه لا يمت للواقع بصلة، وأن تلك المجالات بالذات كانت المتضرر الأول والأكبر من الحصار المضروب على البلد الخليجي، وأنه ليس هناك عاقل يستطيع أن يصدق أن هناك اتحادا إقليميا يفعل بعض أعضائه ما فعلته تلك الدول بقطر، ثم يدعوها بعدها لأن تحضر قمة من قممه، وكأن شيئا لم يكن. وربما قد يفسر البعض ذلك بالقول، إن الروابط والعلاقات بين الدول الخليجية متداخلة ومترابطة، بشكل لا يمكن فيه مهما حصل من توترات، أو تجاوزات، أن تنفصم أو تتقطع مهما طال الزمان أو قصر، وإنه لابد في الأخير من أن تجتمع الأسرة الخليجية كلها تحت خيمة واحدة، لا فرق فيها بين سعودي وقطري وعماني وإماراتي وبحريني وكويتي.
والسؤال هنا، ما الذي يمنع أن يتكرر الأمر نفسه في الجزء الآخر من العالم العربي، أي في المغرب العربي؟ أليست الروابط بين دوله وثيقة وقوية أيضا؟ وإن كان ما يجمع الخليجيين أقوى مما يفرقهم، فهل ما يفرق المغاربيين يبقى أقوى وأكبر مما يمكن أن يقربهم ويوحدهم؟ لا شك في أن الأزمة الخليجية تبدو أكثر حدة من المأزق المغاربي، ولا شك أيضا في أن هناك أطرفا خارجية هي التي سعت لإشعالها، وهي التي تسعى أو تحرض على إخمادها الآن لحسابات خاصة، لكن لا أحد يستطيع أن ينكر أيضا أن انحدار العلاقات بين الأقطار المغاربية إلى أسوأ الحالات لم يكن محض الصدفة، وأنه كان بدفع ودعم غير مباشر من بعض القوى الإقليمية والدولية، فهناك حتما داخل المنطقة وخارجها من يغذي منسوب التوتر والجفاء والقطيعة بين الدول الخمس، ويرغب في بقائه عاليا، بحيث لا يمكن أن نتحدث الآن لا عن تكامل، ولا عن تعاون، ولا حتى عن تضامن حقيقي وكامل بين قطرين مغاربيين، فما بالك بالأقطار الخمسة معا.. وحتى العلاقات الثنائية كتلك التي تجمع تونس بالجزائر مثلا، والتي غالبا ما تقدم وكأنها النموذج الناجح والاستثناء الوحيد تقريبا لتلك الحالة، فإنها رغم التصريحات الودية التي يتبادلها الرئيسان التونسي والجزائري، والتنسيق المستمر بينهما في بعض الملفات، ليست بالفعالية والمثالية التي يسوقها إعلام البلدين، في تجاهل تام ومقصود لعدة وقائع على الأرض، كاستمرار غلق الحدود من الجانب الجزائري، وغياب أي مؤشر إلى وجود حد معقول من التعاون الحقيقي بينهما، يتعدى شعارات الأخوة والمصير المشترك، التي ترفع دائما من القيادتين إلى أبعد من مجرد قيام السلطات الجزائرية مثلا، ومن حين لآخر بعمليات أقرب ما تكون للمن، أو للعطف نحو جارتها الصغرىن لكن ما الذي يجعل الحال كذلك؟ ربما يكمن المشكل في طبيعة تلك الروابط والعلاقات الرسمية، التي لم تكن مضبوطة ومتوازنة بالقدر المطلوب، ولم ترتبط برؤية أو تصور مغاربي مشترك. ولنأخذ مثالا بسيطا على ذلك. ففي إصدار حديث ظهر أواخر العام الماضي، ذكر الوزير الأول التونسي الأسبق حامد القروي، أن الوزير الأول المغربي عبد اللطيف الفيلالي، عرض عليه في التسعينيات أن يقوم باسم تونس بنوع من الوساطة بين المغرب والجزائر، وأنه قال له يكفي أن يحصل لقاء بين قائدي البلدين، أي المغرب والجزائر حتى تعقد حينها القمة المغاربية المفترضة في الجزائر، لكنه أضاف أنه عندما عرض المقترح على الوزير الأول الجزائري أحمد أويحيى أجابه الأخير، وماذا إن لم يؤد لقاء القائدين إلى نتيجة؟ ورغم أنه أخبره لاحقا، أن المغاربة لا يرون مانعا من اللقاء بغض النظر عما سيفضي إليه، إلا أن لا شيء حصل بعدها كما قال.
وبغض النظر عن السبب الذي جعل المسؤولين الجزائريين لا يتحمسون كثيرا للفكرة، فإن السؤال الأساسي هو، لِمَ لم ينزل التونسيون بثقلهم ويبذلوا جهدا اضافيا لإقناعهم بذلك؟ ولِمَ كانت محاولاتهم للتقريب بين الجزائريين والمغاربة سطحية وبسيطة ومحدودة للغاية؟ لعل النظرة الضيقة للعبة التوازنات وتصورهم أن الحفاظ على المصالح يرتبط ببقاء حالة العداء بين الجارتين الكبيرتين، كان الدافع وراء ذلك، فتونس لم تستطع مثلها مثل موريتانيا، ولعدة اعتبارات يطول شرحها، أن تكون في وضع شبيه بوضع الكويت وسلطنة عمان في الخليج، أي أن تلعب دور المهدئ والمعدل للتوترات، والمتدخل لفض النزاعات والتوترات في المنطقة. ولكن يجب القول أيضا إن التصرف القطري مع أطراف الأزمة كان فريدا من نوعه، وبعيدا عن التعامل المعتاد للمغاربيين مع بعضهم بعضا، في حالات التوتر التي تشهدها علاقاتهم.
ويكفي أن نشير هنا إلى أن الدوحة لم تلجأ وعلى مدى كل تلك السنوات إلى معاملة الدول المقاطعة لها بالمثل، غير أن هذا لا يعني أنه سيكون مطلوبا أن تتطابق أوضاع المغرب الكبير تماما مع أوضاع الخليج، ليكون ممكنا حلحلة الوضع فيه. ولكن ألن يكون جديرا بالمغاربيين أن يفكروا، على الأقل، وهم يتابعون تطورات أزمة الخليج، كم فرصة على طريق مصالحتهم ضيعوا في السابق، وكم بات ملحا عليهم أن لا يضيعوا اليوم المزيد؟