” المسرح الرحال” أو المسرح المتنقل ينشر بين سكان الأحياء الفقيرة في ضواحي المدن المغربية الفرحة والبهجة والسرور ويساعدهم في نسيان معاناة وضعهم الاجتماعي ولو إلى حين. تجربة فنية غنية ذات بعد اجتماعي عميق.
مثل ما قد يحصل لطفل يلعب بحبيبات رمل على شاطئ البحر.. يعثر على “صدفة” جميلة رمى بها الموج إلى الشاطئ، فيأخذها الطفل فرحا بين يديه و يسرع الخطو اتجاه والديه ليريهما ما عثر عليه، دون أن يدري ما هي حقيقته، فقط هو شيء أخذ ببصره وفجر فرحا ومتعة في دواخله… هكذا يمكن وصف مشاعر الأطفال والراشدين الذين يحضرون عروض المسرح الرحال في ضواحي المدن الهامشية في المغرب، أمثال عمر وعلي وفاطمة.
بدا عمر وعلي وفاطمة، وهي أسماء مستعارة، في غاية الانتشاء وهم يغادرون الساحة المتربة الممتدة في حجم ملعب لكرة القدم، بعد انتهاء ” العرض الفني”(تقرقيب الناب) الذي قدمته “فرقة المسرح الرحال” وسط حيهم السكني الفقير، سيدي الطيبي بضواحي مدينة القنيطرة، الذي يرنو عادة إلى سكون وسبات… هو ذلك ” الفرح الطفولي” يرتسم على محيا الأطفال الثلاثة، بيد أنهم يجدون صعوبة في شرح سبب فرحهم ذلك، فقط قالوا في رد مقتضب عن السؤال : “هذا شيء جميل رأيناه ونتمنى أن يعود إلينا ثانية في وقت قريب”، وهم يستعجلون خطوات العودة إلى البيت، وسط الأتربة ونقع الغبار…
جمهور من مختلف الأعمار من الجنسين يقف خلف حواجز حديدية في شكل حلقة.. أطفال يجلسون القرفصاء في مقدمة الحزام البشري الدائري.. زوال يوم أحد، الشمس المائلة في اتجاه المغيب تضرب بأشعتها المتخافتة تدريجيا مباشرة في وجوه الممثلين..الكل مشدود إلى “ساحة اللعب” .. ينطلق “عرض الفرجة”.. رقص و العاب بهلوانية، ألعاب سيرك وموسيقى ونفخ في النار..”عرض مسرحي” ونقع غبار، مشاهد ولوحات في ألوان متعددة في انسياب يأخذ بالعين والحواس، ممثلون يحملون أقنعة، يرتدون ملابس وإكسسوارات غريبة عن أذهان المشاهدين.. وكراكيز بأسماء تشخص أدوارا مختلفة، لأناس في الحياة اليومية، فتفجر ضحكات وتعاطف وتفاعل في الحلقة : شخصية الشرطي المرتشي وعامل الصرف الصحي، الفتاة التي ترغب في الهجرة غير الشرعية، خادمة البيوت وطالبة الجامعة المغلوبة على أمرها.. في المشهد الأخير تنتصب حلبة للملاكمة فوق ” الخشبة” بأعمدة وخيوط، في مبارزة بين امرأة ورجل.. المواجهة حماسية وفيها ندية..في الجولة الأخيرة تتمكن المرأة من الانتصار على الرجل بضربة قاضية.. تتعالى تصفيقات الجمهور في الحلقة، وفي الجهة الأخرى أصوات عدم رضى واحتجاج، بيد أن الروح الرياضية كانت هي السائدة…
على نهج الثنائي “مارغريت بييري” و”دافيد جونستون” يعمل محمد الحسوني، مدير فرقة ” المسرح الرحال” وزوجته، صوفيا البوخاري، على استنبات تجربة فنية مشابهة في المغرب .. ضمن فرقة “تون أونت كيرشن”، في بلدة غلينداو في ضواحي مدينة بوتسدام بولاية براندنبورغ في شرق ألمانيا، قضى الحسوني، المنحدر من أسرة بسيطة بمدينة سلا على ضفة وادي أبي رقراق، ما يزيد عن عقد من الزمن كممثل، بعد أن هاجر إلى أوروبا وهو ابن الثامنة عشرة، تجربة قادته في جولات عالمية في أوروبا وآسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، ولعب أدوارا ما تزال راسخة في ذاكرته مثل “دور مفيستو” في “مسرحية فاوست” لفولفانغ يوهان فون غوته، و دوره في مسرحية “حديقة الكرز” لأنطون تشيخوف، قبل أن يقرر العودة من أجل الاستقرار في بلده المغرب وتأسيس تجربة فنية خاصة به…
“نحن نحمل المسرح والفرجة ونذهب به إلى الساكنة حيث توجد ونقترب من الناس “، يقول محمد الحسوني في مقابلة مع دي دبليو، ويضيف ” انطلقنا في البداية بصنع الأقنعة والكراكيز وتأطير ورشات في المسرح والتشكيل لفائدة شباب في أحياء فقيرة في مدينة سلا، وبعدها خرجنا بالفكرة إلى الفضاء العام..”، “بيد أن البداية في منتصف التسعينات لم تكن سهلة ..”، يقول.. اليوم تشغل الفرقة واحدا وعشرون من الشباب ذكورا وإناث، بينهم 15 عضوا يعملون بشكل قار..زوجته أيضا تشارك في التمثيل وتصنع الأقنعة وتُأطر في ورشات التكوين..
شكل العروض يروق كثيرا فئة الشباب
تجربة فرقة “المسرح الرحال” في المغرب ما فتئت تجد تجاوبا متزايدا لدى فئات اجتماعية واسعة، خصوصا الشباب منهم، بالنظر للمواضيع التي تطرحها، والشكل الذي تقدم به الفرجة الفنية.. يقول أحمد(23 سنة) الذي شهد أحد عروض الفرقة ” شكل اللوحات ممتع وجميل والمشاهد الفنية تمنح المتفرج كثيرا من السفر والحلم..”..أما فاطمة التي حضرت عرض الفرقة الأخير، فهي تعترف أن هذه الأشياء، وتقصد العرض، تشاهدها لأول مرة بهذا الشكل واللون، ثم تضيف : “أكثر ما أعجبني مشهد انتصار المرأة على الرجل في مباراة الملاكمة، و” المرأة هي أيضا قوية وتغلب الرجل”، تقول في ابتسامة و بنبرة مشوبة بنشوة…
تجاوز إشكال قلة المسارح
وعن الإضافة التي تقدمها التجربة للحقل الثقافي، خصوصا في ظل قلة المسارح في المغرب، يقول هشام عبقري، وهو ناقد ، في حديث مع دي دبليو: ” تجربة المسرح الرحال تتجاوز الخصائص في البنى الثقافية الرسمية للدولة من أجل تقريب الفرجة من الناس الذين ليست لهم إمكانية الولوج إلى الثقافة في هذه المؤسسات..”، ويرى بعض الموازاة في أن ” التجربة جديدة في الشكل لكنها قديمة في التصور”، في إحالة منه على أشكال عرض عتيقة عرفها المغرب مثل فن “الحلقة” و” لبساط”، ويعتبر عبقري أن القيمة المضافة فيها تتجلى في أنها ” تسهم في عودة الناس إلى الفضاء العام وتملكه، وهي بذلك تشكل “حلقة مهمة في الاندماج داخل المجتمع”، كما يقول العبقري.
بينما يرى متتبع آخر تحدث عن التجربة قائلا :” الإضافة تتجلى في تنويع العروض، من خلال توجه آخر للمسرح يعتمد تكسير التقليدي والنمطي والمألوف، وهو بهذا يعتبرها “قيمة تحقق فرجة مغربية بأبعاد إنسانية عالمية..”. بيد أن ذات المتحدث يبدي ملاحظة وتهم خطاب العرض، يقول: ” هو خطاب يكرس الدوران داخل حلقة الأسوار”، بما أنه خطاب، في قراءته، “يتناول مواضيع مختلفة في نفس الوقت”، فهو يتساءل، ما إذا كان هذا الخطاب يساعد في تطوير الوعي الجماعي أو يضيف لبنة فيه
أما عبد القادر مكيات، وهو أيضا ناقد مسرحي تحدث دي دبليو في ذات المحور، فإنه يلتقي مع كلام عبقري من جهة حين يعتبر بدوره: ” أن الجميل في تجربة محمد الحسوني هو أنه يذهب بعروضه إلى الناس، خاصة في هوامش المدن والأحياء الفقيرة..”، ويضيف بهذا الصدد قائلا: ” هي تجربة رائدة و منظمة تعيد للفضاء العمومي ألقه، من خلال التفاعل مع الجمهور وإشراك الناس في الفرجة”.
الآن بات عدد الشركاء والداعمين لتجربة ” المسرح الرحال” يتزايد بشكل مستمر، بعضهم آمن ب”الرسالة ” بعد حين، فيما احتضنها آخرون مباشرة في مهد الولادة، من بينهم ” المعهد الثقافي الألماني غوته” بالرباط، الذي يقدم دعما ماديا للفرقة وهو شريك أساسي في التجربة، قبل أن يدخل على الخط شركاء وداعمون آخرون، منهم وزارة الثقافة ووزارة الداخلية، من بوابة “مشروع التنمية البشرية”، ومؤسسات القطاع الخاص. في نفس الوقت ظهرت اليوم عدوى تأسيس تجارب مماثلة في مدن الدار البيضاء، طنجة وورزازات