توجد تصورات متعددة للتنمية، وتعتمد كل دولة على مخططات قد تقودها إلى الرقي، وأخرى تفشل في الطريق. وتوجد كتابات متعددة حول الموضوع ومن أبرزها “لماذا تفشل الدول، جذور السلطة والرفاهية والفقر” لمؤلفيه دارون أسيموغلو وجيمس روبنسون، ومنها تبني مشاريع قد تأتي بنتائج سلبية.
ويسعفنا مثال من المغرب لفهم معضلة بعض القرارات التي تعكس في البدء تقدما، ولكنها في العمق تحمل فشلا. فقد أصبح المغرب يتوفر على قطار سريع، وهو من الدول القليلة في العالم، لكن مع تدشين القطار السريع ما بين طنجة والدار البيضاء منذ أسابيع، يتفاجأ الرأي العام بارتفاع مديونية قطاع السكك الحديدية من 900 مليون دولار سنة 2010 إلى قرابة أربعة مليارات دولار. الأرقام المقلقة تدفع إلى التساؤل: هل المغرب في حاجة ماسة إلى القطار السريع وهل ويتماشى ومفهوم التنمية الحقيقية التي تحتاجها البلاد؟
وهكذا، تباهت الدولة المغربية بإنشاء القطار السريع، واعتبرته سبقا في إفريقيا والعالم العربي، وعلامة متميزة ودالة على تقدم المغرب، لكن في العمق تصور الدولة قائم على مفهوم غير صائب للتنمية المرجوة. وهناك عدد من الاعتبارات السياسية والاقتصادية المحضة لفهم أعمق في هذا الشأن. وهكذا، قرار إنشاء القطار السريع، والمكلف غاليا جدا، هو قرار صادر عن الدولة، وليس قرارا جرت بشأنه استشارة الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والهيئات، التي تعبر عن نبض المجتمع، وقد رفضت أحزاب وهيئات، بل أصوات من المربع الضيق للسلطة فكرة القطار.
في الوقت ذاته، كلّف القطار ميزانية تصل إلى ثلاثة مليارات دولار، وهذا يعني قرابة 3% من الناتج القومي الخام للمغرب، علما أنه بخدمة الدين قد تصل ميزانية القطار السريع إلى ما يفوق أربعة مليارات دولار مستقبلا، خاصة إذا لم تتحقق نسبة المسافرين المخطط لها. ومن باب المقارنة، لا توجد أي دولة في العالم أقدمت على مشروع القطار السريع بهذه التكلفة، مقارنة مع إنتاجها القومي. والدول التي لديها قطارات سريعة في العالم هي الدول التي تصنع هذه القطارات مثل، اليابان وألمانيا وفرنسا وإسبانيا والصين، وبالتالي تكون التكلفة تنشيطا للصناعة الوطنية، كما أن التكلفة المالية للقطار لا تشكل حتى 0.1% من الناتج القومي الخام، أي ما بين ثلاثين وخمسين مرة أقل من المغرب، مقارنة مع إنتاجه القومي الخام. ومن ضمن الأمثلة، كلف القطار السريع لإسبانيا سنة 1992 قرابة مليارين ونصف مليار يورو، وجزء منه بدعم من الاتحاد الأوروبي وقتها، أي لم تتحمل الدولة كل المصاريف. وكان الإنتاج القومي لإسبانيا هو قرابة 500 مليار يورو، أي لم يصل إلى 0.5% من الناتج القومي للبلاد، علما أن القطار السريع الأول الذي ربط مدريد بإشبيلية تطلب بناء 31 جسرا بقرابة عشرة كلم في المجموع و16 نفقا. لكن في حالة ألمانيا والصين واليابان لم تتجاوز التكلفة 0.1% من الناتج الإجمالي القومي.
اقتصاديا دائما، الدول التي أقامت القطار السريع جاء نتيجة تقدم علمي وصناعي واقتصادي، فقد كانت إسبانيا تعيش تطورا اقتصاديا مذهلا في الثمانينيات بعد الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، واحتضنت كأس العالم والألعاب الأولمبية والمعرض العالمي في إشبيلية سنة 1992 وارتفع فيها معدل السياحة، وكان النمو الاقتصادي للبلاد هو الذي يمول المشاريع، وأقامت اليابان القطار السريع سنة 1964 في وقت بدأ العالم يتعرف على القفزة المهولة للصناعة الإلكترونية اليابانية التي بدأت تغزو العالم وقتها، لكن يحدث العكس في المغرب، فالبلاد غارقة في المديونية التي تصل إلى 91% من إنتاجها الخام، ولكنها فضلت الاستثمار في القطار السريع.
اقتصاديا، يوجد عدد من الدول التي فضلت الاستثمار في قطارات ذات سرعة مقبولة مستغلة السكك الحديدية المتواجدة أصلا، كما هو الحال مع بريطانيا والولايات المتحدة خاصة هذه الأخيرة، إذ يوجد قطار سريع عادي بين العاصمة واشنطن ومدينة نيويورك، وليس من نوع القطارات السريعة مثل القطار المغربي.
وتراهن إسبانيا على قطارات سريعة موازية، كذلك ليس من نوع تي جي في “آفي” AVEفي بل من نوع ألفيا Alvia سريعة وغير مكلفة. وكان بإمكان المغرب تطوير الخط الرابط بين طنجة والدار البيضاء بقطارات سريعة عادية، وليس تي جي في المكلف جدا، وذلك فقط بقرابة 700 مليون دولار، وفق بعض التقديرات، أي توفير ملياري دولار.
اجتماعيا، في كل الدول التي أنشأت القطارات السريعة، يمتلك مواطنوها سواء العاملين أو العاطلين أو المتقاعدين القدرة الشرائية على اقتناء تذكرة السفر، هذا لا يحدث في المغرب، حيث لا يوجد تعويض على البطالة وتوجد معاشات لبعض المواطنين ومنهم الأرامل لا تتعدى 200 درهم في الشهر (20 دولارا)، أي الحد الأدنى لتذكرة السفر في القطار السريع.
وهذا يعني أن شريحة مهمة من المواطنين لا يمكنها ركوب هذا القطار.
ليكون المغرب البلد الوحيد في العالم الذي لديه قطار سريع تفوق تذكرته معاشات بعض المواطنين. ولا يحدث هذا في أي دولة أخرى، بل الأكثر مأساوية أن هذه الفئات الفقيرة تساهم في تمويل القطار السريع من خلال الضرائب بدون الاستفادة منه.
واجتماعيا كذلك، راهنت الدول على القطار السريع بعدما سجلت تقدما في مختلف القطاعات الاجتماعية مثل التعليم والصحة والشغل، وهي اليابان وفرنسا وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا وهولندا وأخيرا الصين، القوة الاقتصادية الثانية في العالم. وكل الدول التي لديها القطارات السريعة لديها جامعات ضمن المئتين الأولى في العالم، ولديها أنظمة صحية رائدة في العالم، وليقارن القارئ مؤشرات المغرب في التنمية الاقتصادية مع هذه الدول ليجد الفارق المهول.
الرهان على المشاريع الكبيرة يجب أن يكون نتيجة قفزة اقتصادية هائلة وعاملا لتنشيط الاقتصاد الوطني، وهذه المميزات تغيب في حالة القطار السريع في المغرب، لأنه لا يتماشى وإيقاع البلاد اقتصاديا واجتماعيا، بل أنه مشروع رفع من المديونية وبنتائج مشكوك فيها مستقبلا، إن وهم التقدم يترجم بتنمية خاطئة.