احتل المغرب حيزا كبيرا في الفكر السياسي الإسباني منذ بدء حروب الاسترداد مع مفكرين مثل رايمون يول، الذي مارس تأثيرا قويا على فكر إيزابيلا الكاثوليكية، إلى مفكرين مثل خواكين كوستا أو آنخيل غانبيت نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين إلى كتابات فكرية سياسية رائعة مثل خوان غويتيسيلو في يومنا هذا. وتوجد حالات استثنائية جديرة بالدراسة من الضفة الجنوبية لمضيق جبل طارق مثل حالة المفكر والسياسي بلاس إينفانتي الذي طالب بوحدة بين المغرب والأندلس.
تعتبر أطروحة السياسي والمفكر الأندلسي بلاس إنفانتي (1885-1936) حول المغرب استثنائية في الفكر السياسي الإسباني رغم تزامنها مع الحقبة الكولونيالية، وتستحق اهتماما كبيرا نظرا لطابع القطيعة أو على الأقل المراجعة بمفاهيم تصحيح الأطماع الاستعمارية في أوروبا، وفي هذه الحالة إسبانيا تجاه شمال المغرب. وهكذا، في ظل انتعاش الكولونيالية وحروب الاستعمار بين المغرب وإسبانيا ومنها حرب تطوان وحروب الريف، برز إنفانتي بمقترح الفيدرالية الأندلسية -المغربية. ويطرح مقترح الاندماج بقوله “المغرب دولة حرة مرتبطة بالأندلس. والحل الوحيد هو تولي الأندلس تسيير الحماية في المغرب”. جاء هذا التصور بعد سقوط المغرب تحت الاستعمار الفرنسي والإسباني سنة 1912، وتلطيفا يطلق على الاستعمار “الحماية”.
واعتبر بلاس إنفانتي المغرب والأندلس وحدة جغرافية وسياسية يجمعهما تاريخ مشترك يمتد إلى قرون وتوجد علاقات إنسانية بينهما. وبعيدا عن الفكر الاستعماري، لم يكن هذا المفكر يقصد بالحماية، كما يفسر في أطروحته، الهيمنة الاستعمارية الكلاسيكية على المغرب بل مساعدته في الخروج من التخلف نحو التقدم، على أساس أن تبقى السيادة والقرار دائما في يد المغاربة. واعتقد في التكامل بين الطرفين ، واقترح صيغة “الفيدرالية الأندلسية-المغربية”.
وتعتبر أطروحة بلاس إنفانتي معاكسة إلى مستوى العداء للفكر السياسي السائد وقتها في إسبانيا سواء خلال حروب الريف أو المرحلة الكولونيالية. فقد طور نظرية الحكم المشترك في إطار الفيدرالية الأندلسية-المغربية في العقد الثاني والثالث من القرن العشرين، وذلك من خلال مسيرة بحثه عن هوية الأندلس وتأثير الأحداث الكبرى على فكره، ومنها استعمار إسبانيا لشمال المغرب. ويوجد عاملان فكريان يفسران رهان بلاس إنفانتي على الفيدرالية المغربية-الأندلسية، وهما:
في المقام الأول، تأثره الكبير بالحضارة العربية الأندلسية، فقد كان معجبا بها. وانكب على دراسة مختلف جوانب التراث الأندلسي وسافر إلى المغرب واجتمع بأحفاد الموريسكيين الذين طردوا في القرون السابقة. وتفيد دراسات اسبانية باعتناقه الديانة الإسلامية.
وفي المقام الثاني، يجب الأخذ بعين الاعتبار مركزية الثقافة، والمتجلي في التراث الأندلسي في تصوره السياسي للعلاقات الدولية لإسبانيا. فقد كان ينادي بجعل الأندلس ركيزة الحوار مع باقي الدول العربية والاسلامية ومجموع البحر الأبيض المتوسط. ومن هنا يأتي تركيزه على العلاقات الثقافية كأرضية للتفاهم السياسي. وشدد بلاس إنفانتي على رابط الأخوة بين الإنسان اعتمادا على وشائج الثقافة الضرورية لإرساء السلام. ويرى في المغرب المنطقة التي مازالت تحتفظ بالتراث الأندلسي بفضل الموريسكيين الذين قصدوا هذه الأراضي بعد تعرضهم للطرد عبر مراحل وآخرها سنة 1609.
يتبين من خلال تحليل أطروحة بلاس إنفانتي أنها امتداد للشق الإنساني في الفكر الأفريقاني (مدرسة فكرية متنوعة تتعلق بطريقة التعامل مع المغرب بين الاحتلال إلى المساعدة على التقدم)، تلتقي مع أطروحة خواكين كوستا الذي اعترف بفضل المغاربة على تاريخ إسبانيا وطالب برد هذا الدين من خلال المساهمة في عصرنة المغرب. وهي نظرية معادية لنظرية كانوفاس ديل كاستيو الذي ينتمي بدوره إلى الأندلس، وبالضبط مالقا مثل إنفانتي، لكنه كان ينادي بتحول جزء من المغرب إلى أراض إسبانية، حتى حدود الأطلس.
ويعد بلاس إينفانتي آخر مفكر إسباني أغنى الفكر السياسي الإسباني تجاه المغرب بأطروحة أو نظرية متكاملة، وآخر حلقة مهمة في الفكر السياسي الإسباني تجاه المغرب، لأن جميع الأطروحات اللاحقة الفكرية أو السياسية المحضة تستوحي معطياتها وآراءها من النظريات السابقة. ويتراوح الفكر السياسي الإسباني بين العدوانية التاريخية الممثلة في مفكرين وسياسيين اعتمدوا وصايا إيزابيلا الكاثوليكية مثل كانوفاس ديل كاستيو في القرن التاسع عشر، والجنرال فرانسيسكو فرانكو في القرن العشرين وخوسي ماريا أثنار في القرن الواحد والعشرين، وبين المصالحة التاريخية التي جسدها بلاس إنفانتي وتستوحي منها بعض الحكومات الاشتراكية ونشطاء المجتمع المدني مبادئها تجاه المغرب.
وتعد نظرية بلاس إنفانتي المرحلة الأخيرة من الفكر الإسباني تجاه المغرب المرتبطة بالأحداث الكبرى التي انطلقت منذ بداية حروب الاسترداد ثم سقوط الأندلس حتى استعمار المغرب. ولرصد تطورات جديدة في رؤية المفكرين الإسبان كان يجب انتظار استقلال المغرب وبداية الانتقال الديمقراطي في إسبانيا. وكانت الدراسات بعد الحرب الأهلية تجمع بين المنهجية الأكاديمية القائمة على البحث العلمي والرؤية السياسية الأبوية الكلاسيكية لما يعرف وقتها “المغرب الإسباني”، وامتد هذا الوضع قرابة عقدين.
ومن مكر التاريخ، اغتالت القوات التي نفذت الانقلاب ضد الجمهورية سنة 1936 بلاس إنفانتي بسبب أفكاره التي اعتبروها معادية لوحدة إسبانيا وخطرا على التواجد الإسباني في المغرب. والمفارقة أن الجنرال فرانسيكسو فرانكو سيستوحي الكثير من أفكار إنفانتي في شمال المغرب ومنها تجنيد المغاربة بإسم الأخوة الأندلسية.
وكان البرلمان الأندلسي الذي يتمتع بالحكم الذاتي قد كرمه بإعلانه “أب الوطن الأندلسي”، وتشهد الأندلس، ومنذ حصولها على الحكم الذاتي بداية الثمانينات، انتعاشا لفكره السياسي الذي كان يعتبر “الأندلس قطعة من الثقافة الشرقية في الغرب”، والمشرقي بمعنى مختلف مظاهر الثقافة بالتنوع الديني والإثني واللغوي والفكري. إنه المفكر الأندلسي الذي يشكل الاستثناء، ويبقى مجهولا في العالم العربي-الأمازيغي.