مستقبل العالم مرتبط بالتطورات التي يعرفها العالم الرقمي، وعندما يحمل كتاب اسم “العصر الرقمي الجديد: إعادة تشكيل مستقبل الشعوب والأمم والأعمال” ويكون مؤلفاه من ضمن مدراء الشركة العملاقة “غوغل” الأمريكيين إريك شميديث وجاريد كوهن، وقتها يأخذ الكتاب أهميته لأنه صادر عن أشخاص يؤثرون في حياة البشرية في الوقت الراهن عبر شبكة الإنترنت التي تحولت الى العمود الفقري للتطور الحضاري.
والكتاب الصادر سنة 2013 والمترجم الى لغات متعددة منها الإسبانية والذي يتم اختصار عنوانه في “المستقبل الرقمي” أو “العصر الرقمي الجديد” ينطلق من أطروحة واضحة وحاضرة في حياتنا وهي: كيف تؤثر الإنترنت وما نسجته من عالم رقمي على حياتنا في الوقت الراهن وخلال السنوات المقبلة أو العقدين المقبلين؟ ويرمي الكتاب عبر فصوله السبعة والمقدمة علاوة على الخاتمة الإجابة على هذا التساؤل العريض انطلاقا من معطيات سياسية واقتصادية واجتماعية من المحلي مرورا بالوطني الى العلاقات العالمية.
ويبرز الكتاب في المقدمة كيف نجحت الإنسانية في اختراع شبكة الإنترنت التي كانت في البدء تتطلب أدوات كبيرة ومرتفعة الثمن الى الاستعمال اليومي والعادي والسهل عبر الحاسوب الشخصي أو الهاتف، حيث يبرز المؤلفان صعوبة استيعاب جزء كبير من الإنسانية حتى الآن القوة الحقيقية لهذا الاختراع. وينسبان ذلك الى عدم اهتمام الغالبية من الناس بالتطور الحقيقي للإنترنت وما يرتبط بها وما تسجله الشبكة من تطور سريع لا يكاد يلمس في بعض الأحيان من طرف المستعملين خاصة في ظل تطور البرامج المستعملة.
ويلخصان الإضافة القيّمة لشبكة الإنترنت في الحضارة الإنسانية في نقطتين، الأولى وهي حرية المعلومات التي تتدفق عبر الشبكة وتتعاظم مع مرور الوقت وتحدث تغييرات جذرية، بينما النقطة الثانية هي حركية المعلومات وسرعتها في عالم أصبح افتراضيا لكنه يمارس تأثيرا مهولا على حياة الواقع الى مستوى صعوبة التفريق بين الواقع العملي والافتراضي.
ويبرز الكتاب أمرا هاما للغاية هو سؤال المستقبل، ويشدد في هذا الصدد “خلال عشر سنوات المقبلة، الإشكال الهام والمحوري لن يكون هل المجتمع سيستعمل الإنترنت بل ما هي صيغة الإنترنت التي سنستعملها؟”
وينتقد الكتاب الفكرة الرائجة وسط الكثيرين بالحرية المطلقة في الإنترنت، ويعتبرها خاطئة للغاية نظرا لسيطرة الدول والحكومات على مجموعة الآلات التي تجعل من الإنترنت شبكة للتواصل محدودة في بعض الأحيان. ومن ضمن الأمثلة، حالة الصين التي تعتبر ما يبث في الإنترنت مرتبطا بسيادتها، فقد أصدرت قوانين تقنن من المعلومات في الإنترنت عبر إنشاء برامج “للتصفية المعلوماتية” لمنع كل ما يتعارض مع توجه النظام الحاكم في بكين، ثم هيمنة شركات عملاقة على سوق إنشاء البنيات التحتية للاتصالات ومنها الإنترنت. ويرى الكتاب في الصين نموذجا سيئا على حرية الإنترنت لتسهيلها المراقبة لدول ثالثة. ومن تجليات سياسة الصين هو منعها لشبكات التواصل الاجتماعي مثل يوتوب وتويتر وتقليد دول لها في هذه السياسة وهي دول مقربة من الغرب مثل حالة تركيا التي تمنع بين الحين والآخر بعض شبكات التواصل الاجتماعي.
والهدف من تقنين الإنترنت هو شعور الدول بخطر الشبكة على هويتها وأركانها، فهي الأكثر تأثيرا بحرية الشبكة، وهو ما يفسر انتشار سياسة الصين في مراقبة الإنترنت في عدد من الدول بما فيها السائرة في طريق الديمقراطية. ويخصص الكتاب فصلا خاصا لموضوع تأثير الأنترنت على الدول وكيف سيكون شكلها مستقبلا، وهو شكل مفتوح على الغموض نسبيا.
وفي فصل تكميلي تحت عنوان “مستقبل الثورات”، يعالج الكتاب مستوى آخر من تأثير الشبكة على الدول وهو كيف تنطلق الثورات وتستفيد من مختلف الآليات والبرامج المرتبطة بالإنترنت. وينطلق الباحثان من الربيع العربي الذي وضع برامج التواصل الاجتماعي مثل الفايسبوك ويوتوب في قلب التغييرات السياسية والاجتماعية.
وحول هذا الموضوع، لا يتخيل الكاتبان حدوث ثورات مستقبلية بدون تأثير الإنترنت التي سيستعملها قرابة خمسة ملايير شخص. فالتواصل الجديد سياسيا ألغى الكثير من الحواجز على مستوى السن والطبقات وبين الرجل والمرأة، حيث أصبح مفهوم القيادة السياسية للثورات جديدا بشكل مختلف عن الماضي.
واستقى الكاتبان هذه النتيجة من استعراض نوعية الزعامات للثورات والهيئات السياسية التي ظهرت مع شبكة الإنترنت خلال السنوات الأخيرة انطلاقا من الربيع العربي الى أحزاب سياسية في أوروبا مثل اليونان واسبانيا وإيطاليا. ويعتبر الكتاب النجاح السياسي مستقبلا للهيئات التي ستوظف بذكاء برامج التواصل مع المواطنين والرأي العام الوطني والدولي وطريقة تشكيل جماعات الضغط الافتراضية التي قد تعوض اللوبيات تدريجيا. ويضفان أدوات الاتصال مثل الهاتف النقال وبرامج التواصل الاجتماعي مثل الفايسبوك بالسلاح السياسي الحقيقي الآن وسيأخذ حجما أكبر مستقبلا. ويركز الكتاب كثيرا في هذا الفصل على الربيع العربي.
ويلتقي الكتاب مع عدد من الباحثين ويعترف الكتاب باستفادة الإرهاب والإجرام المنظم من شبكة الإنترنت مما يبرر لجوء الدول الى محاولة التحكم في الشبكة تحت ذريعة محاربة الإرهاب. ويخصص الكتاب لظاهرة استفادة الإرهاب من الإنترنت فصلا تاما، معتبرا ذلك من المظاهر البشعة للشبكة بحكم توفيرها للإرهابيين التقنية والمعلومات الكافية لصنع المتفجرات والتخطيط للاعتداءات.
“نزاعات وحروب وتخلات مستقبلية”، هو عنوان الفصل السادس الذي يحاول الكتاب رصد التغييرات التي قد تشهدها الحروب والنزاعات مستقبلا وتتبلور في الوقت الراهن. ويؤكد الكاتبان على تحول فضاء الإنترنت الى فضاء للمواجهة لهزيمة الآخر انطلاقا من البروباغاندا وترويج روايات متناقضة الى القضاء على القدرة الرقمية للخصم.
ويتوصل الكتاب الى نتيجة رئيسية وهي أن شبكة الإنترنت تقوم بإعادة تشييد هذا العالم انطلاقا من التغييرات التي تحدثها على المجتمعات ومختلف المجالات. ويستعرض الكتاب في الفصل السابع والأخير “إعادة البناء والتركيب” كيف تعمل الإنترنت على صياغة العالم من جديد ويدعو العالم الى الرؤية بتفاؤل لعملية البناء هذه التي تعارضها الكثير من الأنظمة ومنها السلطوية. وتخلص الفقرة التالية هذه الرؤية: “التطبيقات الذكية لتكنولوجيا التواصل وتعميم الربط الرقمي سيساهم في إعادة التركيب، والمعلومات وسيقوي من قدرة الناس، وكل هذا سياهم في بزوغ مجتمع أحسن، وأكثر قوة وذات قدرة أكبر للبناء مجددا”.
وتقول خاتمة الكتاب “لا يمكن أن نلفي اللامساواة أو التعشف السلطوي، لكن عبر التكنولوجيا يمكن تغيير السلطة التي توجد في أيدي قليل من الأشخاص، الأمر ليس هينا ولكن يستحق”.
الكتاب تعرض للكثير من الانتقادات ومنها من طرف مؤسسة جمعية ويكليكس، جوليان أسانج الذي وصفه بغير المحايد. وينطلق أسانج من الصراع الذي انفجر بين ويكليكس وغوغول ومنها اتهام الأولى للثانية بالتورط في مخططات تغليط الرأي العام العالمي والتجسس. وتسعف أمثلة كثيرة المنتقدين ومنها ما كشفع موظف وكالة الأمن القومي الأمريكية إدوارد سنودن منذ سنتين بعدما ألقى الضوء على تعاون كبريات شبكات التواصل الاجتماعي مع السلطات الأمريكية في التجسس على العالم.
ويركز الكتاب على هذه النقطة في فقدان المواطنين جزء من السرية لحياتهم الشخصية بسبب استعمالهم للإنترنت، ورغم اعترافهما بهذا المظهر السلبي إلا أنهما يجعلان الغلبة لصالح المظاهر الإيجابية للإنترنت على البشرية.
لكن الكتاب يأخذ أهميته من اعتماده الكبير على معطيات الواقع سياسيا واجتماعيا وعسكريا واقتصاديا لشبكة الإنترنت على البشرية. ومن ضمن الانتقادات التي يمكن توجيهها للكتاب هو عدم القدرة على صياغة نظرية متكاملة يقدمها للقارئ والباحث رغم صفحاته التي تتجاوز 300، إذ اكتفى بنتائج جزئية لمختلف المجالات التي تناولها في الفصول السبعة. وقد يعود هذا الى البرغماتية التي تطبع الأبحاث الأمريكية سواء في الجامعات أو مراكز التفكير الاستراتيجي.
ونظرا لأهمية الإنترنت في حياة البشرية، فالكتاب يتحدث بسهولة عن هذا المستقبل، الأمر الذي يجعله هاما لكل باحث وإن اختلفت مجالات بحثه، فالإنترنت أصبحت محورية في حياتنا وتزداد مستقبلا.