المتتبع لتقارير الهيئات الدولية الخاصة بحرية التعبير، وكذلك بمحاربة الفساد، سيتفاجأ كيف أصبح العالم العربي من الخليج إلى المحيط، خاصة في شمال افريقيا محاطا بحزامين من الدول الديمقراطية في الشمال أوروبا، وفي الجنوب افريقيا تتمتع بحرية التعبير والشفافية في التسيير، وكيف بدأ هذا العالم العربي يتخلف عن قيم الرقي وسط المنتظم الدولي.
وهكذا، في أعقاب موجة الاستقلال من الاستعمار، التي شهدها العالم إبان الخمسينيات وحتى منتصف الستينيات، خاصة في افريقيا، كانت الدراسات تشير إلى احتمال تقدم سياسي واجتماعي في الدول العربية، خاصة شمال افريقيا مثل المغرب والجزائر وتونس، وأخرى مثل سوريا والعراق، لاسيما في حرية التعبير ومحاربة الفساد. وبعد هذه المدة، أصبحت دول افريقية كانت شبه معدمة تتقدم في هذه المجالات عليها.
واعتمدت تلك الدراسات حول التقدم المرتقب في العالم العربي على معطيات واقعية، وهي وجود بنيات تحتية مقبولة تركها الاستعمار من مدارس ومستشفيات وإدارات. ولعل السر في تلك التكهنات هو وجود عنصر بشري، امتلك وقتها طموحا وطنيا جامحا لخدمة الوطن، والالتحاق بركب الدول المتقدمة. وأنتج مفكرو وسياسيو ما بعد الاستقلال، الحركة الوطنية، فكرا وأدبا يزخر بهذه القيم ويعتمد هذه الأيديولوجية أو تلك. ورغم الاختلاف تجند الجميع للهدف الأسمى وهو خدمة الوطن. وبدأ الزمن يمرّ، وجرى نقل تلك الشعارات إلى المتاحف أو الأرشيف، وبدأت الوجوه القبيحة تظهر سواء لتلك التي في السلطة أساسا، أو المعارضة نسبيا، وساد القمع والنهب والديكتاتورية. ومن باب مقارنة تكتلات الدول، كان من نتائج هذه السياسة، التقدم الحثيث لدول في أمريكا اللاتينية، وجنوب شرق آسيا. وانتقلت هذه الدول بمقاييس ومعايير اجتماعية وسياسية، إلى المنطقة ما بين العالم الأول والعالم الثالث، الذي ظهر في الخمسينيات من القرن الماضي، ويمكن تسميته بالعالم الثاني. وأصبحت كل دول جنوب شرق آسيا متقدمة على العالم العربي، لاسيما في الشق السياسي. وباستثناء حالة واحدة أو حالتين، أصبحت كل دول أمريكا اللاتينية متقدمة على العالم العربي، في حرية التعبير والممارسة السياسية. وتشهد هذه الدول حرية تعبير حقيقية، وممارسة سياسية تسير في درب الشفافية، وجرى ربط تولي كرسي المسؤولية بالمحاسبة. ويمكن العثور على عشرات الأمثلة والشواهد من المكسيك إلى الأرجنتين، وكيف جرت محاكمة عدد من رؤساء الدول بتهم الفساد، وكيف تم الزج بمسؤولين آخرين في السجون، سواء كانوا وزراء أو مسؤولين ماليين أو أمنيين وعسكريين.
وابتداء من العقد الماضي، وعندما كان العالم العربي قريبا من التغيير، بفضل انتفاضة الربيع العربي، تكالبت قوى محلية ودولية، ونسجت الثورة المضادة، في تلك الفترة، كانت عشرات الدول الافريقية تعمل على تعزيز مسيرتها نحو الديمقراطية بصلابة وصمت. وخلال الثلاث سنوات الأخيرة، بدأ الشرخ يتسع بين الدول الافريقية، شمالا يتخلف عن ركب الحرية، ووسطا وجنوبا يتقدم. وتسعف التقارير الدولية لحرية التعبير، وكذلك محاربة الفساد، بل التنمية البشرية، ورغم التقدم في حرية التعبير في تونس، تبقى الريادة للدول الافريقية الواقعة جنوب الصحراء الكبرى حتى جنوب افريقيا. ومن ضمن الأمثلة وفق تقرير «مراسلون بلا حدود» تتقدم جنوب افريقيا، المحتلة للمركز 31 عالميا، بأكثر من مئة درجة في سلم الترتيب العالمي، لهذه المنظمة عام 2019 على المغرب (135) والجزائر (142) ومصر (163). ويتكرر الأمر نفسه مع دول مثل السنغال، المحتلة للمرتبة 49، أي بفارق كبير عن جارتيها في الشمال المغرب والجزائر. ويحدث مع دول افريقية أخرى مثل بنين وبوركينا فاسو ورواندا وليبيريا والغابون وغينيا بيساو ومدغشقر.
وما يحدث مع تقارير حقوق الإنسان وحرية التعبير، يحدث مع تقارير محاربة الفساد وشفافية الحكم، فهذه الدول الأكثر تداولا للسلطة على مستوى جميع المؤسسات، من رئاسة ووزارات وإدارات أمنية واستخباراتية وعسكرية. وتساهم حرية التعبير ومحاربة الفساد وشفافية التسيير والتداول في ضخ الأوكسجين في شريان الوطن، ويترجم هذا لاحقا إلى تحقيق تنمية حثيثة وصامتة، تقوم على الابتكار والإخلاص رغم عدم توفر الدول على موارد طبيعية ضخمة، مثل المحروقات. نجحت دول مثل سنغافورة والتايوان وكوريا الجنوبية وإندونيسيا في التحول إلى دول تحظى باحترام المنتظم الدولي، وتسير دول أخرى مثل الأرجنتين وتشيلي في المنحنى نفسه. نعم، يعيش عدد من الدول الافريقية وضعا غير مستقر، بفعل مخلفات الاستعمار، وتدخل الدول من أجل الموارد والصراعات الإثنية، ورغم كل هذا، بدأت في السيطرة على اللاستقرار بفعل الانتقال الصعب نحو شفافية التسيير والتداول على السلطة، وكل هذا يؤهلها ويساعدها في شق طريقها نحو التنمية. وتحقق نموا اقتصاديا مبهرا وتنتقل تنمويا إلى مراتب أكبر. ومن هذه الدول رواندا التي انبعثت من حرب أهلية، خلفت نصف مليون قتيل، وأصبحت مثل سنغافورة، في ظرف سنوات قليلة.
منذ قرون، نجحت أوروبا في نهضتها في التفوق والتقدم، بينما هيمن على العالم العربي فقهاء الظلام، وسقطت هذه البقعة الممتدة من المحيط إلى الخليج في الظلام، ولاحقا الاستعمار. وخلال العقود الأخيرة، تتقدم تكتلات إقليمية مثل أمريكا الجنوبية وجنوب شرق آسيا ومؤخرا افريقيا ما تحت الصحراء الكبرى بفضل حرية التعبير وشفافية التسيير، واحترام كرامة المواطن، بينما يستمر العالم العربي مع استثناءات في براثن البطش. أرقام المعتقلين والمنفيين والنهب شاهدة وناطقة على هذه المأساة. سيتقدم العالم، وستبقى هذه البحيرة الكبيرة من الخليج إلى المحيط، بمقاييس سياسية، بقعة رمادية في الكرة الأرضية.