في الأزمات التي تهز المنتظم الدولي، تتوجه الأنظار إلى الدول الكبرى لمعرفة موقفها والدور الذي ستلعبه، مثل حالة الصين. هذه الأخيرة التي أبانت عن خطاب مستقل وقوي في أزمة الاعتداءات الهمجية الإسرائيلية ضد قطاع غزة، وذلك برفض أي قرار أممي لا ينص بشكل واضح على هدنة وقف النار، كما رفضت ربط حماس بالإرهاب. وتتخذ الصين من النزاع منعطفا جيوسياسيا آخر نحو عالم متعدد الأقطاب بدل القطب الواحد.
وهكذا يوجد اهتمام بالصين في كل مراكز التفكير الدولية والاستخبارات الدولية كذلك لأنها مرشحة إلى قيادة العالم، في المرحلة الأولى بالتقاسم والتشارك مع الولايات المتحدة ولاحقا لوحدها بحكم أن واشنطن ستفقد الكثير من قوتها مستقبلا. وعليه، الجميع ينتظر ويترقب موقف بكين من القضايا الدولية. في هذا الصدد، ارتفع الاهتمام بمواقف الصين تجاه الشرق الأوسط لأسباب متعددة على رأسها الاتفاقية الاقتصادية الضخمة التي وقعتها مع إيران السنة الماضية وتعتبر من أكبر الاتفاقيات التجارية والاستثمارية في التاريخ بين الدول، ثم الدور المفاجئ في نجاحها في تقريب وجهات النظر بين الرياض وطهران، وهذا يعني تجنيب منطقة الشرق الأوسط الصراع السني الشيعي الذي يهدد المنطقة بحرب مفتوحة لعقود إذا خرج الصراع من نطاق السيطرة السياسية. فكيف تعاملت مع الحرب الهمجية ضد قطاع غزة؟
التسلسل الزمني لمواقف الصين
وكما كان منتظرا ومنذ ابتعادها عن الموقف الغربي في الحرب الروسية الأوكرانية بل والتنسيق مع موسكو، ابتعدت الصين مجددا عن موقف الغرب بشأن ما يجري في قطاع غزة من جرائم، وتنسق مع موسكو لمواجهة القرارات الغربية في مجلس الأمن الأممي، هذا المجلس الذي أراد تحميل النزاع لحركة حماس وتقديمها كتنظيم إرهابي مقابل تبرئة إسرائيل، التي أرادت تحميل المسؤولية لحركة حماس وتقديمها كحركة إرهابية. وتعد تصريحات المسؤولين الصينيين دالة للغاية في هذا الشأن.
وارتباطا بهذا وتماشيا مع التسلسل الزمني لمواقف الصين، خلال يوم 8 تشرين الأول/اكتوبر، أعربت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية عن أول رد رسمي للصين على أحداث غزة قائلة: «ندعو الأطراف المعنية إلى التزام الهدوء وممارسة ضبط النفس وإنهاء الأعمال العدائية على الفور لحماية المدنيين ومنع المزيد من تدهور الوضع».
وفي اليوم الموالي وخلال المؤتمر الصحافي الدوري لوزارة الخارجية قالت ماو نينغ المتحدثة باسم دبلوماسية بكين «الصين تعارض وتدين الأعمال التي تلحق الضرر بالمدنيين». كما كررت ماو دعوة بكين إلى إقامة دولة فلسطينية، مبرزة في هذا الشأن إن «مفتاح السلام والأمن الدائمين يتجلى في تحقيق حل الدولتين وإقامة دولة فلسطين المستقلة». ورفضت المتحدثة إدانة حركة حماس كما طالب رئيس الأغلبية في مجلس الشيوخ الأمريكي جاك شومر الذي شدد على ضرورة إدانة بكين لحماس.
ويوم 13 تشرين الأول/اكتوبر، تناول وزير الخارجية وانغ يي مع الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والدفاع في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل ملف القضية الفلسطينية وشدد على أن «الصين تدين جميع الأعمال التي تضر بالمدنيين وتعارض أي انتهاك للقانون الدولي». وفي حديثه عن جذور الصراع، أوضح «الظلم التاريخي الواقع على الفلسطينيين هو سبب الصراع». وكان واضحا حول مستقبل الصراع بقوله «لإسرائيل الحق في إقامة دولة، وكذلك لفلسطين. لقد حصل الإسرائيليون على ضمانات البقاء، ولكن من سيهتم ببقاء الفلسطينيين؟ لم تعد الأمة اليهودية مشردة في العالم، ولكن متى تعود الأمة الفلسطينية إلى بيتها؟».
وتكررت المواقف الصينية إلى جانب القضية الفلسطينية، ومن أبرز المواقف اللاحقة ما أكده وزير خارجية الصين لنظيره الماليزي زامبري عبد القادر يوم 23 تشرين الأول/اكتوبر الجاري قائلا «نقف دائما إلى جانب السلام والقانون الدولي والمطالب المشروعة للدول العربية والمسلمة في القضية الفلسطينية».
وفي اليوم الموالي، قال وزير الخارجية الصيني وانغ يي، في محادثة هاتفية مع نظيره الفلسطيني رياض المالكي، إن بكين تدعو إلى عقد «مؤتمر سلام دولي أكثر حسما وفاعلية وأوسع نطاقا» في أقرب وقت لتعزيز استئناف محادثات السلام بين إسرائيل والفلسطينيين.
يوم 25 تشرين الأول/اكتوبر، استعملت الصين رفقة روسيا الفيتو ضد القرار الذي تقدمت به الولايات المتحدة، وبرر ممثل بكين في مجلس الأمن الرفض بـ «إذا تم تبني مشروع القرار الأمريكي في مجلس الأمن فإنه سيحطم آمال تحقيق حل الدولتين» مشيرًا إلى أن مشروع القرار لا يعكس الدعوات العالمية القوية لوقف إطلاق النار في إسرائيل وغزة.
ويوم 27 تشرين الأول/اكتوبر الجاري، ضمت الصين صوتها إلى 119 دولة أخرى في التصويت على مشروع القرار الذي تقدمت به عدد من الدول العربية إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة يدعو إلى هدنة إنسانية ورفض التهجير القسري للفلسطينيين. من خلال مواقف الصين في حرب إسرائيل ضد فلسطينيي غزة، يمكن استنتاج عدد من الخلاصات التي تكشف عن بوصلة بكين في العلاقات الدولية الحالية ثم رؤيتها المستقبلية، وهي:
أولا، الصين تقف إلى جانب الدول العربية في النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي أو العربي-الإسرائيلي، حيث ابتعدت عن المواقف الغربية. وهذا يتماشى مع المواقف التاريخية للصين تجاه مواجهة الاستعمار.
ثانيا، تحاول الصين الالتزام بالشرعية الأممية وفق منظور الأمم المتحدة من خلال التركيز الحديدي على مبدأ حل الدولتين، وكان وزير خارجية بكين واضحا بقوله أن إسرائيل ليدها دولتها وفلسطين بدون دولة. وتماشيا مع هذا، تعتبر الصين حركة حماس حركة مقاومة بعدما رفضت ربطها بالإرهاب.
ثالثا، الصين تكثف من تنسيقها مع روسيا، وهو تنسيق يضاف إلى التنسيق القوي منذ الحرب الروسية-الأوكرانية. ولعل عنوان هذا التنسيق في الملف الفلسطيني هو استعمال الفيتو ضد مشروع القرار الأمريكي في مجلس الأمن، علما أن الصين نادرا ما تلجأ إلى الفيتو. رابعا، من خلال مواقفها هذه، تسعى الصين إلى تأكيد استقلالية قرارها السياسي في الأزمات الكبرى، وهي بالتالي تخدم رؤيتها الجيوسياسية القائمة على ضرورة عالم متعدد الأقطاب بدل القطب الواحد المعتمد على واشنطن. في الوقت ذاته، ترى في الشرق الأوسط، مصدرا أساسيا لقوتها المستقبلية بسبب أنه يشكل مصدر الطاقة إلى جانب روسيا.