تتسارع وتيرة تحقيق الصين لمكتسبات كبيرة في ظل الأزمات الكبرى التي يشهدها العالم خلال الأربع سنوات الأخيرة، وهو ما يربك حسابات الدولة العميقة في الولايات المتحدة التي تقف حائرة بشأن الاستراتيجية التي يجب اتباعها مع هذا العملاق الصيني، استراتيجية بين التعاون المطلق وأخرى تتبنى المواجهة كما حدث مع الاتحاد السوفياتي.
وهكذا، يتابع العالم باهتمام كبير تطور الأوضاع الجيوسياسية بعدما بدأت كل تقارير معاهد التفكير الاستراتيجي تشير الى إمكانية زعامة الصين للعالم ربما نهاية العقد المقبل. ومنذ بداية العقد الجاري، ما بين 2020-2024 شهد ويشهد العالم منعطفات تاريخية كبرى تتجلى في الأزمات التي تؤثر على مختلف العلاقات الدولية. ونخص بالذكر هنا أزمة جائحة كورونا ثم الحرب الروسية-الأوكرانية وأخيرا طوفان الأقصى، وهي منعطفات تحمل بصمات كبيرة على الوضع المستقبلي لكل من الصين والولايات المتحدة وتصب في تأكيد الزعامة المقبلة لبكين للعالم. واستعراضا لهذه الأزمات وتأثيراتها نجد ما يلي:
أزمة جائحة كورونا: كشفت أزمة كورونا كيف يتأثر العالم بظهور جائحة، وتكون مصدر قوة دول معينة وسبب تراجع دول أخرى. كل الدراسات التي قامت بتقييم حقيقي لأوضاع العالم بعد هذه الجائحة، تبرز كيف تقدمت الصين في أعين الرأي العام العالمي بسبب المساعدات التي قدمتها ثم أنها تحولت الى مصدر رئيسي لمواجهة الجائحة خاصة على مستوى الأدوات الطبية أولا، ثم المساعدات والاستثمارات المالية لإنقاذ عدد من الدول من الانهيار. وحدث هذا في وقت ساءت فيه صورة الولايات المتحدة تحت رئاسة رئيس، دونالد ترامب، صدرت عنه تصرفات لا تليق بمنصب رئيس أقوى دولة. ورغم اتهامات الغرب لبكين بالتسبب في الجائحة تحت ذريعة أن الفيروس خرج من مختبرات هذا البلد، غير أن العملاق الآسيوي خرج منتصرا في التجارة الدولية ودور متعاظم في العلاقات الدولية.
الحرب الروسية-الأوكرانية: تعتبر هذه الحرب منعطفا آخرا يلقي ببصماته العميقة على النصف الأول من القرن الواحد والعشرين، ويمكن اعتبارها من ضمن المحطات الكبرى مثل 11هجمات سبتمبر الإرهابية، ثم الربيع العربي. لم تشترك بكين في الحرب، لكن الاستفادة كانت كبيرة للغاية على حساب الولايات المتحدة. في هذا الصدد، جعلت بكين مباشرة بعد هذه الحرب من منظمة “البريكس” منافسا حقيقيا “لمجموعة العشرين”، ولعل النجاح الكبير هو التحالف بين روسيا-الصين الذي أصبح ندا للغرب، ثم بدء تعويض الدولار بالعملات الوطنية في التبادل التجاري بين عشرات الدول ومنها مجموعة البريكس. وطالبت واشنطن بكين في عدد من المناسبات لعب دور بناء في إيجاد حل للحرب، وهو اعتراف بدور بكين في التأثير في القضايا العالمية.
طوفان الأقصى: يتسبب هذا النزاع في شرخ كبير بين العالم العربي-الإسلامي والغرب الرسمي الممثل في الحكومات المنحازة بشكل شيطاني لإسرائيل على حساب القيم الإنسانية. وظهرت الصين أمام العالم بأنها مدافعة عن القضية الفلسطينية عندما اعتبرتها قضية عادلة ويجب إيجاد حل لها بإقامة الدولية الفلسطينية، بل ورفضت تصنيف حماس كحركة إرهابية، مما يعني أنها حركة تحرر بالنسبة لها. في الوقت ذاته، رفضت الصين التنسيق مع الولايات المتحدة في إيجاد حل للنزاع وفق رؤية واشنطن. كما رفضت التنسيق مع البيت الأبيض في ضمان حرية الملاحة في البحر الأحمر. وكانت بكين في الماضي تنسق بل تنخرط في مشاريع أمريكية من هذا النوع، أمام الآن، فقد أخذت مسافة منها وتنهج سياستها الخاصة بها بتنسيق مع حلفائها مثل روسيا.
تدريجيا، بدأت تحل الصين مكان الولايات المتحدة في مناطق من العالم مثل أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط لاسيما بعد نجاحها في الوساطة بين السعودية وإيران خلال مارس/آذار الماضي، ثم بسط الكثير من نفوذها في شرق آسيا. وهي خطوات واثقة لزعامة العالم. ويدرك صناع القرار الجيوسياسي معطيات الواقع التي لا تصب في صالح الولايات المتحدة مستقبلا. ويذهب فريق في الدفاع عن أطروحة التعاون بين البلدين، حيث سيكون لكل دولة فضاء نفوذها وحلفائها وأتباعها مع الاتفاق على تخفيض منسوب التوتر عندما تصطدم المصالح الحيوية. ويوجد أنصار هذا الفريق وسط الليبراليين واليساريين المنتمين إلى الحزب الديمقراطي.
في الوقت ذاته، يذهب فريق نحو المواجهة، ولا نعني الحرب، بل الصراع المفتوح حول النفوذ في العالم، وقام الرئيس السابق دونالد ترامب بإعطاء هذا التوجه وسط الفكر الأمريكي دفعة قوية عندما تولى الرئاسة سنة 2017، وجعل من الصين تقريبا العدو الرئيسي. ويراهن تيار التشدد على المواجهة مع الصين وتكرار ما حدث مع الاتحاد السوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية حتى تفكك المعسكر الشرقي نهاية الثمانينات وبداية التسعينات. وينطلق هذا التيار من أن الولايات المتحدة هي دولة الحريات السياسية والثقافية والدينية القادرة على إنتاج البديل والجديد ولن تتأثر طويلا بحرب الاستنزاف. ومن ضمن الأمثلة أن واشنطن استمرت في قيادة العالم رغم تعرضها لحروب منهكة لاسيما في الفيتنام طيلة الستينات والسبعينات وفي أفغانستان خلال العشرين سنة الأخيرة، ثم نزاعات أخرى في مختلف مناطق العالم ومنها العراق. ويرى هذا التيار أن الصين الجديدة تحمل في جذورها العناصر القابلة لتفكيك هذا البلد وتفجيره. إذ مهما حاول الحزب الشيوعي السيطرة على شعب يتجاوز مليار نسمة من إثنيات وثقافات وديانات متعددة، ستنتصر مطالب الحريات في آخر المطاف، وسنرى مصيرا للصين أشبه بمصير معظم الإمبراطوريات وهو تراجع قوة السلطة المركزية ثم التفكك. ويقدم التاريخ أمثلة كثيرة منذ الإمبراطورية الرومانية مرورا بالإمبراطورية الإسلامية إبان الخلافة وآخرها العثمانية وحتى الاتحاد السوفياتي. وتجري المقارنة مع الاتحاد السوفياتي كثيرا نظرا لوجود لعناصر سياسية واجتماعية متشابهة بين البلدين.
وهكذا، تستفيد الصين من الأزمات الكبرى في العالم على حساب الولايات المتحدة، لكن الأخيرة قادرة على فرض حرب استنزاف صامتة وعلنية ضد إمبراطورية الشرق لمنعها من زعامة العالم.