أعادت إجراءات إسبانية وبريطانية متبادلة أزمة السيادة على جبل طارق إلى الواجهة. لكن من دون الوصول إلى حافة التدهور. فثمة سقف لا تتجاوزه الخلافات بين الدول الأوروبية. ليس فقط لأن التزامات الوحدة الأوروبية تفرض مقداراً من التضامن والتفاهم وإدارة الخلافات من طريق الحوار.
على رغم أن بريطانيا تندفع أكثر، كلما تناول الأمر مسائل السيادة التي لا تتساهل أمامها، كما حدث في أزمة جزر فوكلاند مع الأرجنتين، إلا إنها اكتفت في الأزمة الحالية بإيفاد سفينة حربية للرسو في عرض البحر المتوسط، درءاً لأي أخطار. وردت إسبانيا بإقرار حظر مرور شاحنات محملة بالأحجار إلى صخرة جبل طارق. ولن يصل الأمر إلى أكثر من توجيه رسائل تفيد بتمسك كل من إسبانيا وبريطانيا بحق السيادة على الصخرة التي ارتبط اسمها بالقائد المغربي طارق بن زياد.
الغريب أن طارق أحرق السفن في طريق اللاعودة لإنجاز مهمة تاريخية في عصر آخر. ولم يدر في خلده أن البحر الذي قطعه برفقة جنوده، سيصبح حداً فاصلاً بين عوالم عدة. ليس أقلها أن بلدان الضفة الشمالية للبحر المتوسط تسارع إلى حل مشاكلها بالحوار والتفاهم، بينما بلدان الضفة الجنوبية الممتدة إلى الشرق تواجه بعضها بالسلاح والقتل.
ولو أن قضية أقل حيوية من الطابع الاستراتيجي لموقع جبل طارق اندلعت بين بلدين عربيين، لكانت المأساة أكثر قتامة.
يختزل الصراع بين مدريد ولندن حول جبل طارق صورة أخرى، بما يمكن أن تؤول إليه العلاقات بين بلدين أوروبيين، يتمسك كل منهما بحقائق ودلالات حول تبعية الصخرة. وأقربها أنهما لم يذهبا إلى الأمم المتحدة أو مجلس الأمن أو محكمة العدل الدولية لاستصدار أحكام ترجح هذا الطرح أو ذاك. واكتفيا بالاتفاق على امتزاج رأي السكان وخياراتهم. لكن، من دون فرض توقيت محدد أو آليات محددة، بل تركا الفرصة لإنضاج ظروف الحل. وإن كان الراجح أن تحريك الملف حالياً لا ينفصل عن الرغبة في الإفادة من واقع الأزمة الاقتصادية والمالية التي تجتازها إسبانيا التي باتت مقيدة بهامش أقل من الحركة.
بدهي أن استفتاء تقرير المصير يظل أفضل صيغة ممكنة لجعل سكان الصخرة يقررون هل هم بريطانيون أم إسبان؟ كان هذا الخيار يرتدي أبعاداً أكبر في السابق، أي قبل انضمام إسبانيا إلى السوق الأوروبية المشتركة التي تحولت إلى اتحاد أوروبي ثم وحدة وعملة مشتركة. غير أن الانتساب الأوروبي يبقى قائماً، أياً كانت النتيجة. وهذه في مقدم الحواجز التي تخفف من حدة الانقسام، يُضاف إليها أن وضع جبل طارق الاستراتيجي المتميز تغير كثيراً في ظل التحولات الدولية، إسبانية كانت أو بريطانية تتماشى والخيارات الأوروبية.
أبعد من استفتاء تقرير المصير الذي يتطلب وفاقاً بين مدريد ولندن أنه لن يغير من طبيعة الروابط القائمة، وكما جربت إسبانيا أنظمة متقدمة في الحكم المحلي، حيث تتمتع المحافظات الشمالية والجنوبية باستقلال ذاتي، يبقى على المنظومة الدفاعية والأمنية ذات الطابع الاستراتيجي لفائدة الدولة المركزية، فإن بعد جبل طارق عن بريطانيا، يمكنه من استقلالية في التدبير المحلي. ولن يحدث تغييراً كبيراً في الموازين بين الدولتين المتصارعتين على السيادة، إلا بالمقدار الذي يجعل السكان يفضلون هذا الطرف على الآخر.
اللافت أنه مع قبول مدريد التفاوض مع بريطانيا حول مستقبل الصخرة فهي ترفض التعاطي مع ملف مدينتي سبتة ومليلة اللتين تحتلهما شمال المغرب بالمنطق نفسه.
ومنذ عقود عدة طرحت الرباط فكرة البحث في حل يضمن عودة المدينتين إلى السيادة المغربية، في ظل الحفاظ على المصالح الاقتصادية والتجارية لإسبانيا. لكن مبادراتها لم تقابل بالتفهم اللائق. مع أنها تنطلق من مبدأ الحوار الذي يطرح الإشكالات القانونية والتاريخية والاستراتيجية. وهي إذ تتمسك في طلب السيادة على جبل طارق بالجوار الجغرافي، فلا أقل من أن ينسحب الموقف على مدينتين توجدان في قارة أخرى على الضفة الجنوبية للبحر المتوسط.
مرات عدة رهن المغرب تعبيد الطريق أمام حل خلافاته مع مدريد حول المدينتين بإنهاء النزاع القائم بين إسبانيا وبريطانيا على جبل طارق، كون التفاهم بين مدريد ولندن يفترض أن ينعكس على تفاهم من نوع آخر مع الرباط. لهذا، ترصد الرباط التطورات بين الصديقين الأوروبيين. وما من شك في أنها لا تريد لعلاقاتها التقليدية مع جارتها الشمالية في شبه الجزيرة الأيبيرية أن تتأثر بتداعيات خلافات السيادة التي لا ينال منها التقادم.
غير أن الطريقة التي يميل نحوها الصراع بين مدريد ولندن تظل أقل مدعاة للقلق. وكانت للرباط تجربة جزيرة ليلى غير المأهولة، فحركت إسبانيا أسطولها مهددة باندلاع الحرب. لكن السفن البريطانية رست في المتوسط، من دون إثارة مخاوف