استأثر بلاغ وزارة الخارجية المغربية، عقب الإعلان عن خطة «صفقة القرن»، بالاهتمام، داخليا وخارجيا، وما تضمنه من «إشادة» بما قامت به إدارة ترامب من مبادرات، اعتبرها البلاغ بنّاءة لحل ملف الشرق الأوسط، ولو أن البلاغ حرص على التأكيد على ثوابت المغرب من الملف، ومنها حل الدولتين، والشرعية الدولية، ثم دراسة المقترح دراسة متأنية. بيد أن المقتضى الأول هو الذي استأثر بالاهتمام. ومن العسير إن لم يكن من المستحيل إقناع الرأي العام المغربي، بأن الإدارة التي نقلت السفارة إلى القدس، واعترفت بضم الجولان، وبسيادة إسرائيل على المستوطنات في الضفة، وضم غور الأردن، تستحق الإشادة على هذه «الجهود» «البنّاءة».
«صفقة القرن» ترخي ظلالها على المغرب، مثلما ترخيها على العالم العربي قاطبة، لتغيير الخريطة السياسية داخليا، وفي العالم العربي أجمع، وبتعبير أوضح ستنتهي المرحلة الرمادية، التي كان يمكن لأطراف أن تتحرك داخلها، أو تحافظ على علاقات مع الأطراف كلها. المنطقة تنحو نحو التقاطب بين اتجاهين، اتجاه قد يُنعت بالواقعية أو البراغماتية، يسير في تناغم مع ما ترسمه الإدارة الأمريكية، أو على الأصح ما تمليه إسرائيل ومراكز البحث القريبة منها المؤثرة في واشنطن، وهو اتجاه ينقل التناقض الكبير بين العالم العربي وإسرائيل إلى إيران، ذات «النزعة الإمبريالية الفارسية في لبوس شيعي». ثم اتجاه آخر، هو أقرب إلى دينامية الشعوب، وينحو نحو الدمقرطة.
ظل المغرب حالة خاصة، إذ هو قريب من قوى محافظة، ثقافيا وتاريخيا ووجدانيا، ولكنه يعرف دينامية، وفيه قوى حية. هذه الدينامية هي التي جعلت القوى المحافظة تعاتبه على تموقعه في المنطقة الرمادية، ولم يسلم هذا الموقف من جفاء مع حلفاء له من دول الخليج.
كنت قد أشرت قبل سنة، من هذا المنبر، إلى حوار كان أجراه وزير الخارجية المغربي السيد ناصر بوريطة مع قناة «الجزيرة»، أعلن فيها انسحاب المغرب من التحالف في اليمن، ونادى بإصلاح ذات البين بين دول الخليج. كان واضحا أنها نبرة جديدة تستحق الإشادة، لكن هل هي النبرة ذاتها التي وردت في البلاغ الأخير؟ المتابع للدبلوماسية المغربية يلحظ نوعا من الانزياح في الاتجاه التقليدي، منذ ضربة أرامكو، وهو الأمر الذي سارعت الخارجية المغربية إلى إدانته، وما عبّر عنه وزير الخارجية المغربي في حوار مع قناة «سكاي نيوز» – وخيار القناة ليس اعتباطيا – من أن العلاقات المغربية السعودية استراتيجية، وكان لافتا كذلك عودة الدفء في العلاقات المغربية الإماراتية بعد ظلال وغيوم، عقب حلول ولي العهد الإماراتي في المغرب غداة مؤتمر برلين حول ليبيا، وحلول الملك محمد السادس عنده، في زيارة خاصة، بمعنى أن المغرب يعود إلى معسكره الطبيعي.
أكيد أن التوجه الجديد للدبلوماسية المغربية، الذي يقطع مع النبرة التي بدت قبل سنة يعود إلى متغيرات دولية. السعودية اليوم ليست هي السعودية قبل خاشقجي، والإمارات اليوم التي تقف على فوهة نار المواجهة، مع جار له قدرة كبيرة على الإيذاء، تفضل الدبلوماسية على المواجهة العسكرية، والبراغماتية على الدوغمائية. المتغيرات الدولية تعيد عقارب الدبلوماسية المغربية إلى وضعها الطبيعي. يبقى الأسلوب، وهو ما بدا في صياغة بلاغ الخارجية المغربية بشأن «صفقة» القرن، وتميز بالسعي إلى إرضاء كل الأطراف، وعدم إغضاب أي طرف. هي وصفة جيدة، في أوضاع طبيعية، ولكن المنطقة ليست في وضع عادي، والسعي الحثيث لإرضاء كل الأطراف، هو أحسن السبل لإغضابها. ليست هناك منطقة وسطى في القيم، كما يقول أرسطو، أو منزلة بين المنزلتين، والقضية الفلسطينية قضية عدالة وشرعية دولية، ليست اتفاقا حول حجم المبادلات يمكن إجراء تنازلات بين الطرفين. فحوى الصفقة أنها تجرد القضية من طبيعتها، أي شعب يريد أن يقرر مصيره، لتحيله كما في الأدبيات الأولى للنزاع إلى مشكل لاجئين، أو «إنساني»، يمنون عليه بالصدقات، وهي تورية لوضع أبارتايد وبونتوستان.
لا جدال في أن مسؤولية رئيس الدبلوماسية المغربي، هي الدفاع عن المصالح الاستراتيجية للمغرب، ولكن هل يمكن الدفاع عنها بمعزل عن الحق؟ في سنة 1986، أقدم الملك المرحوم الحسن الثاني على استقبال رئيس الوزراء الإسرائيلي، شمعون بيريز، كان الاتفاق أن يكون اللقاء سريا، والذي حدث هو أنه ما أن حطت الطائرة بفاس، حتى أذاع راديو تل أبيب الخبر، ما وضع المغرب حينها في حرج شديد. وعقد الملك الحسن الثاني ندوة صحافية، اعتبرها الأصعب في حياته، تخللها سؤال قدمه زعيم الحزب الشيوعي المغربي المرحوم علي يعتة، باعتباره الحزب الذي كان في صفوفه مناضلون يهود، وكان السؤال «مخدوما»، أي مهيأ سلفا، وكان ما طرحه السيد يعتة، في أي موقع سيتموقع المغرب، لو اندلعت حرب بين الدول العربية وإسرائيل. أجاب الملك حينها، إنه يشكر الزعيم المغربي، لأنه يعرف موقف المغرب، ولكنه مفيد بالنسبة للأطراف الأخرى. موقف المغرب مع الحق، والحق بجانب القضية الفلسطينية. في تاريخ الدبلوماسية المغربية، كان هناك خط لا يمكن تجاوزه، في الملف الفلسطيني، لا لاعتبارات وجدانية وعاطفية، ولكن لاعتبارات العدالة والشرعية الدولية. لا يطلب من الدبلوماسية المغربية أن تكون فلسطينية أكثر من الفلسطينيين، المطلوب منها أن تنحاز إلى حيث الحق والشرعية الدولية، وحيث التوجهات الكبرى للشعب المغربي.
قبل عشرين سنة لوح شمعون بيريز بشرق أوسط جديد، ومنظومة اقتصادية جديدة، وكان انطلاق المؤتمر الاقتصادي الموازي لمسلسل السلام في الدار البيضاء سنة 1994، ونعرف النتيجة. وسنة 2003 تحدثت الإدارة الأمريكية عن شرق أوسط جديد بناء على توصيات المعهد الأمريكي للمبادرة، يجعل من العراق منطلقا للدمقرطة ونظام السوق، ونعرف النتيجة. لا يحسن بوزير الخارجية المغربي أن يرى مثلما يقول المثل المغربي «شاف الربيع (العشب)، ما شاف الحافة (المنحدر)».
أما المصالح الاستراتيجية الكبرى للمغرب، فالشعب المغربي هو الجدير بالدفاع عنها، ولا يمكن بهذا الصدد من أجل إحقاقها الارتكان لأي قوة أو لعبة أو تسوية أو مساومة. لكن لا بد مما ليس منه بد، المصالحة الداخلية. لا يمكن لبلد امتلك الشجاعة كي ينظر لقضايا حقوق الإنسان قبل عقدين، أن يتلكأ في هذا الملف اليوم، فالسياسة الخارجية لبلد كما يعرف أي طالب في العلاقات الدولية هي استمرارية لسياستها الداخلية. من هنا يبدأ الدفاع عن القضايا الاستراتيجية للمغرب.