ليس ثمة ما يستحق الكتابة عنه غير الأندلس، فتنتها أكبر من أن تستوعبها حكاية واحدة، ولا رواية واحدة. الزمن لها كله، والمكان لها كله، وما تبقى من حبر لها كله. هذا حال الروائي الأندلسي الإسباني المالقي خوصيه غارسيا منويل مارين (1954)، مع موضوع الأندلس الذي استغرق كل اعماله الروائية والقصصية ، من ” الزعفران”2005، إلى مجموعته القصصية “المصباح الفضي”2006 إلى روايته “درج الماء “2008: فعمله السردي ” ملكة الاقمار”2012، وقبل ذلك كله في العام 2003 كتب مؤلفه النقدي والمعرفي ” الحمراء”، لاحق فيه التجليات الرمزية لهذه المعلمة التاريخية الحمراء.
تنبعث الأندلس من منابت كل هذه الأعمال، فتنة متمردة، تتربع على عرش كلماته وتستوطن اجنحة الخيال الجارف باتجاه مرافئ مهجورة، فيبعث فيها الحياة ويبعث فيها الكلام، ويوقض في عيدان منابرها شموخا غفا لحظة ثم استحال حكاية ثائرة.
حديث خوصيه غارسيا عن أندلسه وعوالمها وعن مورسكييها وحكاياتهم، هو بدوره أدب، يحقق من المتعة ما تحققه باقي أعماله، ففيه لايخفت وهج الحكي ولا يضمر. التقت به ألف بوست لتسمع منه في حديث خصها بها عن أندلسه وقضاياها الجمالية والفكرية والتاريخية والإنسانية، فجاء الحوار على النحو الآتي:
ربما يكون مناسبا تقديمك للقارئ العربي كاتبا للرواية التاريخية ؟
حسنا، فعلا، فأنا اعتبر نفسي كذلك، لأنه النوع الروائي الذي اهتم به وأحس بمتعة معه.
وبدقة أكبر يمكن وصفك بالروائي المختص في تاريخ الأندلس؟
الأندلس تحتل فضاءا زمنيا هائلا: ثمانية قرون. و صعب للغاية أن تصير متخصصا في حقبة طويلة. ثم إن الأندلس تتطور، وهي أبعد ما تكون عن كونها ثابتة أو غير متبدلة. ومن ثم، فإن الأمر على النقيض من ذلك تماما، إذ على مدى القرون الثمانية، جرى إنتاج لحظات من الابداع الثقافي كان الاكثر تميزا في الغرب كله. ولذلك يجب ألا اعتبر نفسي مختصا، لكن نعم عارفا ودارسا لهذه الحقبة من تاريخنا.
راويتك الزعفران تحمل قارئها إلى مرابع الأندلس، إلى عواصمها، وطوائفها وعمرانها، وتقف عند تقليد الرحلة لدى رجالها؟
الزعفران راوية تدور أحداثها في العام 1252 الموافق ل 649 للهجرة، وهي الفترة التي كان قد سيطرت فيها قوات فرناندو الثالث على إشبيلية وقرطبة، ولكنها أيضا سنوات ظهور الطوائف أو مملكة غرناطة ، التي تشمل اليوم غرناطة وألميرية ومالقا. وعلى الرغم من الانتصار المسيحي، فإنه مع ذلك مازل يُستشنق في إشبيلية وقرطبة العبير الأندلسي.ولعل ترحال البطل وسفره يسمح لي بوصف طرق العيش والمآثر العمرانية الأكثر أهمية.
ثمة تمثيل مكنون لقيم ما في شخصية مختار بن صالح البطل الرئيس ؟
مختار يجسد رجل البلدة الذي، من دون أن يكون بطلا، لا يستسلم. الرحلة التي يقوم بها، و هو يعتقد انه هروب، ومن دون أن يعي بذلك، إنما يقوم برحلة داخلية، باتجاه البحث عن ذاته وعن الله. هذه الرواية، في جزء منها، إبراز لسموق المنزلة التي كان عليها صوفية مسملون ومفكرون يهود كذلك في الأندلس، وقد نذكر من بينهم ابن العربي وهو احد أبناء مورسيا وابن رشد وابن ميمون وكلاهما من قرطبة.
مختار بن صالح يشي بأنك كاتب تحَمِّل ساردك داخل المتن الروائي عبئ قضية معينة، مالذي تتبناه أساسا ؟
من خلال روايتي أتطلع إلى تبنى ماضينا الذي كان معظمه مسلما وحتى يهوديا. فبعض الإسبان من مستوى ثقافي متوسط جعلوهم يعتقدون أن المسلمين الذين كانوا يقيمون بالأندلس جاؤوا كلهم من الخارج، من المغرب أو حتى من شبه الجزيرة العربية، ويخفون حقيقة أن ” إسبان” تلك الفترة كانوا قد اعتنقوا الإسلام طواعية. ودون الذهاب بعيدا فهم يعتقدون أن من بنى قصر الحمراء هم ” المورو” على حد تعبيرهم ، بينما مؤسس مملكة بني نصر والمسؤول عن بدايات تشييدها كان رجلا من خايين يدعى محمد بن نصر، بالإضافة إلى ذلك فقد كان في شبه الجزيرة مسيحيون.
القارئ في روايتك الثانية “درج الماء” يلتقي ثانية مع الأندلس إلا أنك في هذه المناسبة تقف به عند الحقبة الدرامية ؟
فعلا في روايتي ” درج الماء ” ، أرصد حقبة أخرى من تاريخ الأندلس أكثر مرارة، لانها تحيل على فترة طرد السكان الاصليين المسلمين، حتى من بعد ما اعتنقوا المسيحية خوفا وقهرا من ضغوط الكرادينال سيسنيروس. وهؤلاء المطرودون يدعون المورسكيين. لقد كانت فترة صعبة ومأساوية. لقد حُرم الناس من ممتلكاتهم وأجبرو على الخروج من دون لا شيء. كثير من النبلاء المسيحيين احتجوا لانهم حرموهم من الخبراء الحقيقين في الزراعة وري أراضيهم التي كانوا المالكيين الحقيقيين لها. وبموجب المنطق الخالص فقد أدى ذلك إلى إلحاق انهيار اقتصادي، بالإضافة إلى ما يراد إخفاؤه وهو جريمة الإبادة. ومع ذلك بعضهم تمكنوا من التخفي، فقط عبر الانتقال إلى مواضع أخرى في شبه الجزيرة الإيبيرية.
لا شك أنك عبر روايتك “درج الماء” تعود بالقضية المورسيكية إلى واجهة التداول الثقافي والسياسي الحالي؟
طبعا، في روايتي أجلي تلك المأساة عبر لسان أنخيل ، الذي سيكتشف أنه ينحدر من أصول مورسيكية، مع وصف لهروب خمس عائلات من مدينة طَلَبَيْرَة يقودها خيرونيمو في بداية القرن السابع عشر ، الذي يجسد بشكل أقوى روح البطل.
يظهر أن الأندلس فضاءا روائيا تجذبك جذبا إلى عوالمها، بل وإنك لتبدو كما لون أنك ترغب في قول أشياء عنها؟
إن كل شيء هناك يجذبني، الفن والطبخ والفكر، والشعر والأدب، والعلوم والتصوف، بل تجدبني على نحو خاص القدرة على التعايش، و الكرم واستيعاب ثقافات اخرى، التي بقيت منطبعة في وعينا الجمعي وهي تميز الشخصية الأندلسية باعتباره شخصية كونية .
ثمة روايات تاريخية إسبانية أخرى تلقي بظلال الشك على ما اجتهدت انت في إبرازه عن الأندلس؟
عادة ما أدرج قائمة المراجع التي اعتمدها في الصفحات الأخيرة عند نهاية روايتي، واحيل على مراجع تاريخية إسبانية وأجنبية، وعلاوة على ذلك، فإني قد أبرزت أن نمط الحياة التي اصفها في أعمالي الروائية تتطابق مع النتائج المحصلة من الفن الذي شاع في تلك الفترة ، وتتناغم مع اخرى احتفظت بها كتب العلوم والفلسفة. ولعل الأندلس الفقيرة التي يصورها من يشكك في قيمها وتميزها، فهو غير مصيب على الإطلاق، لأن تلك الصورة لا تتناغم مع النتائج.
هناك إذن بتقديرك دور للرواية التاريخية الإسبانية في إعادة كتابة تاريخ الأندلس ولو تخييليا؟
من خلال عرضنا للتاريخ ، يلتقط القارئ منطق الأمور والأحداث ، ويقف من خلال ما أرغمونا على دراسته، عند حقيقة انه لم يجر فقط تحوير الاحداث، بل يدرك انها غير كافية”. لقد كانت لديهم رغبة في تجاهل ثماني قرون من الحكم الإسلامي، ومن الازدهار الاندلسي، غير أن الروايات تساهم في أن تظهر الحقيقة وتصبح جلية للعيان، وبما في ذلك معرفة اننا عبر تاريخنا كنا مسلمين أكبر منه مسيحيين. ولحسن الحظ فإن عددا من المؤرخين اليوم تخلصوا من رقابة الكنيسية الكاثوليكية وبدأو يعكسون كل تلك الحقائق التاريخية.
ما الذي يشغلك أكثر وانت تكتب رواياتك التاريخية، هل التاريخ أم الادب؟
يشغلني التاريخ والأدب على حد سواء، يجب خلق رابط سردي جداب تتبلور على متنه أحداث القصة التي يتعين أن تكون صادقة، لكن من دون أن نغفل عن الاهتمام بمعجمنا ولغتنا، لأنه لايجب أن ننسى أننا نمارس الأدب. و إهمال أي واحدة من هذه الثلاثة معناه عدم الوفاء باحترام القارئ.
كيف تعاملت الرواية الإسبانية عموما مع الأندلس؟
الآن كل مرة هناك معالجة أفضل. منذ بضع سنوات خلت، كان يتم تجاهلها كما لوانها لم تكن. واليوم يوجد في إسبانيا كتاب كبار للرواية التاريخية الذين انشغلوا بها، وعلي أن أضيف موضحا أن القارئ بدأ يتلقى تاريخنا على انه اكتشاف ممتع.
خطابك الثقافي حول الأندلس الذي تحمله رواياتك يتصادم مع خطابات سياسية وثقافية محلية، فيرون غيرما تراه انت ؟
نعم يتصادم معه، لأن هذا الخطاب السياسي أو ” الثقافي” الذي عفا عنه الزمن ، يبثه أولئك الذين يعتقدون أننا مازلنا” كما كان يقول فرانكو” ” الاحتياط الروحي للغرب”. وبنظرهم يتعين تقوية مقولات:” الاجتياح، و الغزو العسكري العربي”، لانه بدون ذلك لن يكون معنى لحرب الاسترداد، وفي هذه الحالة، كما قلت سابقا عملية إبادة.
ما الذي تريد أن تحكيه عن الأندلس ولم تذكره بعد؟
أكثر من احكي شيئا ، أريد إبراز الخصائص الإنسانية للإندلسي، فيما يتعلق بتألقه الإبداعي والثقافي، وكذلك تفرده المتناغم مع كونيته، وعشقه للحياة المتوسطية، ولفكرها، حيث البحر المتوسط ليس إلا عاملا من عوامل توحيد الشعوب، وفي النهاية أرغب في أن نكون فخورين بجذورنا .