تعتبر الثورة الجزائرية التي أطاحت بالرئيس عبد العزيز بوتفليقة من أروع حلقات الربيع العربي منذ اندلاع الثورات من أجل الديمقراطية نهاية 2010 وبداية 2011، وتأتي لتؤكد أن الربيع العربي هو منعطف في تاريخ الشعوب العربية التي سيقودها حتما الى إرساء الديمقراطية مستقبلا، لكن حتما كذلك بتضحيات جمة. ولعل الجديد فيها هو دور المؤسسة العسكرية.
وعمليا، نعيش المرحلة الثانية من الربيع العربي وهي الاحتجاجات التي تشهدها عدد من الدول العربية من أجل الكرامة وأساسا الجزائر التي نجحت في مسعاها بالتخلص من بوتفليقة وحاشيته. ويحاول الشعب السوداني التخلص من الرئيس عمر البشير الذي وصل على دبابة الى السلطة وساهم في إضعاف دولة كانت تعد استراتيجية للأمن الغذائي العربي، لكن انتهت الى حروب أهلية وانفصال الجنوب.
ومن المرتقب انتقال شرارة الربيع العربي الى الأنظمة الملكية التي ستكون لا محالة مطالبة بإصلاحات حقيقية وليس الإصلاحات السياسة البسيطة مثلما حدث في المغرب والأردن سنة 2011 وشراء السلم الاجتماعي عبر استثمار أموال مباشرة في الشعب مثل الرفع من الأجور كما حدث في السعودية والإمارات والبحرين. الشرعية الوحيدة التي ستساعد هذه الأنظمة الملكية على الاستمرار هي شرعية الديمقراطية وتمر عبر إرساء “الملكية البرلمانية” مثل اسبانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا. ومبدأ الشرعية التاريخية الذي تقوم عليه قد بدأت صلاحيته تنتهي لاسيما في ظل تحول بعض الأنظمة الملكية الى عنوان للفساد المالي والإداري وخروقات حقوق الإنسان والانبطاح للغرب.
وما يجب الاحتفاظ به وأشرنا إليه خلال مناسبات متعددة سواء في صفحات القدس العربي أو في كتاب بالإسبانية سنة 2012 حول الربيع العربي بعنوان “انتفاضة الكرامة” (دار إيكريا برشلونة) هو عدم رؤية الربيع العربي من زاوية زمنية ضيقة أي على ضوء سنوات بل ضرورة رؤيته على ضوء جيل أو جيلين. ويعود هذا الى العامل الزمني غير القصير لإحداث التغييرات في مجتمعات مازالت لم تنخرط في الحداثة السياسية وخرجت من قرون من التخلف الثقافي.
ولعل التغيير البارز الذي ساهمت به الثورة الجزائرية هو موقف المؤسسة العسكرية التي انحازت الى الشعب، وهو تكرار لموقف المؤسسة العسكرية التونسية التي لم تستجب للرئيس الفار زين العابدين بنعلي، وهو تكرار لتجارب دولية أبرزها الثورة البرتغالية سنة 1974. ودور المؤسسة العسكرية سيكون حاسما في المستقبل، من رحمها سينبثق ضباط يؤمنون بالديمقراطية وضرورة الانحياز الى الشعب، ويعيش الجيش السوداني هذا المخاض في الوقت الراهن.
والعامل الزمني لا يقتصر فقط على العالم العربي بل هو من مميزات الثورات التي تعتبر منعطفات عبر التاريخ وفي مختلف الدول والمناطق. وتفيدنا كتب التاريخ كيف اندلعت الثورات الديمقراطية الكبرى في أوروبا سنة 1848 التي تعرف كذلك ب “ربيع الشعوب”، ورغم عدم نجاحها في الإطاحة بالأنظمة التي كانت تميل الى الدكتاتورية، فقد أجبرت، كما يؤكد المفكر المغربي الأمير هشام في ندوة له بجامعة دوك الأمريكية منذ أسبوعين في دفع الملكيات الى الرهان على الإصلاح السياسي الذي يعد المدخل للتغييرات التي حصلت ونقلت أوروبا الى الديمقراطية رغم الهزات التي وقعت بين الحين والآخر. ومن طرائف هذه الثورات هو دور التلغراف كأداة تواصل بين النشطاء السياسيين وقتها، وهو ما ساعد على انتقال التظاهرات من بلد الى آخر في وقت وجيز أو التنسيق في التظاهر لقد لعب التلغراف دور الفضائيات وشبكات التواصل والفايسبوك في الربيع العربي وباقي الانتفاضات في مناطق أخرى من العالم.
وحدث السيناريو نفسه في منطقة أمريكا اللاتينية، لقد ناضلت شعوب المنطقة منذ القرن التاسع عشر، وبالضبط منذ الاستقلال عن اسبانيا في العشرينات من ذلك القرن للانتقال الى الديمقراطيةـ وها هي الآن تعيش في ديمقراطية مقبولة لا تصل الى مستوى نيراتها الأوروبية لكن سائرة نحو متانة حقيقية رغم شبح الانقلابات والانتفاضات الاجتماعية العنيفة ووصل رؤساء لا يؤمنون كثيرا بالديمقراطية مثل حالة الفنزويلي نيكولا مادورو والبرازيلي جير بولسانارو.
مع النجاح النسبي للثورة المضادة في العالم العربي بقيادة الإمارات العربية والسعودية ووجدت منعطفها في مصر، اعتقد الكثير من المحللين في نهاية الربيع العربي، لكن لم يستحضروا دروس التاريخ. وفي الحالة العربية هناك عاملان، التغيير الذي يحصل وسط المجتمع نتيجة قدوم جيل بعد جيل وبأفكار جديدة لا يرضى أن يكون في أسفل قائمة الحريات عالميا، ثم امتداد هذا الشعور والتفكير الى باقي مؤسسات الدولة باكتساب وعي جديد وخاصة المؤسسة العسكرية نتيجة تأثرها بالمجتمع وانضمام عناصر جديدة لها. وتبقى الثورة الجزائرية خلال الأسابيع الأخيرة مثلا ساطعا، فقد تبنت المؤسسة العسكرية المواقف الحقة للشعب، وتبنى القضاء بدوره هذه المواقف.
المجتمعات غير جامدة، ودينامية المجتمعات العربية لن تتوقف عند أشخاص مثل عبد الفتاح السيسي في مصر أو محمد بن زايد في الإمارات أو محمد بن سلمان في السعودية أو كومبارس مثل حفتر في ليبيا. الربيع العربي ليس بالفعل المرتبط بلحظة زمنية واحدة بل مسلسلا طويلا يتطلب فترات زمنية بين الأخذ والرد والجزر والمد، لكن سينتهي الى نتيجة اسمها الديمقراطية مثلما انتهت إليها شعوب مثل أوروبا وأمريكا اللاتينية بل حتى في آسيات وإفريقيا.
نعم، لن تبقى المساحة الممتدة من المحيط الى الخليج خارج التاريخ الديمقراطي وتحت رحمة حكام فاسدين.