أحدث الرئيس الجزائري تغييرات هامة داخل جهاز الاستعلامات والأمن (المخابرات) وُصفت بأنها ثورة غير مسبوقة. بالنسبة لأنصار نظرية وجود صراع محتدم في أعلى هرم السلطة بين الرئاسة والمخابرات، فإن بوتفليقة انتصر على اللواء توفيق مدين (الرجل الشبح الذي لا يعرف الرأي العام شكله وصوته رغم 23 عاما أمضاها في منصبه) بالضربة القاضية وجرّده من أدوات بطشه التي مكنته وجهازه من الهيمنة على البلد منذ أكثر من عقدين.
وبالنسبة لأصحاب نظرية ‘كل شيء على ما يرام، والصراع موجود في خيالات المروجين له’، هي تغييرات عادية مألوفة ومن صلاحيات الرئيس الدستورية فاختار تنفيذها عندما فرضت الظروف الداخلية والإقليمية ذلك.
اللافت في الموضوع أن الرئيس بوتفليقة، أولاً، قام بـ’ثورته’ على المخابرات وهو مُـقعد على كرسي متحرك، فأنجز وهو في حالة عجز صحي بائن ما لم ينجزه وهو في ذروة قوته وسطوته بُـعيد تسلمه الرئاسة، وعندما انتظر منه الجزائريون ذلك بشغف وشوق.
وثانيا قام بوتفليقة بـ’ثورته’ بعد أن انتهت أيامه كرئيس وبات منتـَظرا منه مغادرة قصر الرئاسة بالنظر إلى المدة الطويلة التي قضاها رئيسا، وبالنظر إلى المتاعب الصحية التي تلاحقه منذ ثماني سنوات، وبالنظر أيضا إلى ‘انجازاته’ التي في مقدمتها، داخليا، انتشار الفساد الإداري والمالي والسياسي بشكل غير مسبوق، وإقليميا نجاحه في تحويل الجزائر إلى بلد هامشي تابع وبالكاد يــُذكر.
لم يعد هناك سبب واحد يغري بالترحيب باحتمال استمرار بوتفليقة رئيسا. لا يوجد سبب واحد يشفع له. الرجل يلعب مباراة خاسرة في وقتها الضائع. ومن مصلحته أولاً والجزائر ثانيا أن يعيد مفاتيح البلد إلى من تتوفر فيه القدرة على التعامل مع مشاكلها المتراكمة.
ومع ذلك لا يمكن فصل ‘ثورته’ على جهاز المخابرات والتعديل الحكومي الأخير، وترتيب بيت حزب جبهة التحرير الوطني، عن طموح جامح لديه في البقاء حيث هو، ولو على كرسي متحرك، بالانتخاب أو التمديد، أو في توريث الكرسي (الثابت) لشقيقه الأصغر ـ ومستشاره الشخصي. اسمه السعيد بوتفليقة، لم يـُعرف عنه، قبل وصول شقيقه إلى الرئاسة، أن اقترب من السياسة، لكن هناك إجماعا على أنه لا يقل سطوة ونفوذاً عن الرئيس ذاته.
لا توجد معلومات دقيقة ومحددة عمـّا أحدثه بوتفليقة من تغييرات. لكن المعروف هو أنه:
في جانب ‘الثورة’ داخل المخابرات، مفيد التوضيح أنه جرّدها من إدارة الإعلام والدعاية، وهي إدارة شديدة التأثير والإساءة عندما تريد ذلك، وعلى علاقة جيدة ـ فوقية ـ بالكثير من مدراء الصحف والصحافيين القادرين على تسميم الأجواء وتكدير مزاج أي مسؤول في الدولة ومن ثمة الإطاحة به. هذه الإدارة هي التي تقف وراء التسريبات الصحافية عن فساد محيط الرئيس وشقيقه وبعض وزرائه (دون أن يعني ذلك أنها على خطأ أو ظلمتهم).
كما جرّد بوتفليقة المخابرات من الشرطة القضائية، وهي جهاز تولى التحقيق في ملفات الفساد الكبرى التي ارتبطت بعهده ومست رجاله وأشد المقربين منه والموالين له. وهنا لا يمكن تخـيّل أن بوتفليقة فرح بالتحقيقات التي، لو اكتملت، كان من شأنها أن تدين وزراء ومستشارين هو من جاء بهم وزكاهم طيلة سنوات غير قليلة.
وجرّد جهاز المخابرات من إدارة الأمن العسكري، وهي مخابرات الجيش والذراع التي تضمن استقراره وولاءه والاطمئنان له، وألحقها برئاسة الأركان التي يقودها أكبر ضابط على وجه الكرة الأرضية: أحمد قائد صالح (80 عاما).
في جانب التعديل الحكومي، يكفي الوقوف عند أسماء الوزراء الذي أوكلت لهم حقائب الإشراف على الانتخابات، وهم الداخلية (الطيب بلعيز) والعدل (الطيب لوح)، بالإضافة إلى رئاسة المجلس الدستوري (مراد مدلسي)، ليعرف المرء أنهم من ثقاة الرئيس ويأتمرون بأمره. وهؤلاء ستكون لهم الكلمة الأخيرة في سير الانتخابات الرئاسية، في الربيع المقبل، ونتائجها. فالأول يتحكم في الإدارة والثاني في القضاء والثالث يضمن التغطية الدستورية في انتخابات أو تمديد.
بقي جانب الأحزاب السياسية وبقية التنظيمات التي لا تتنفس إلا بالأوامر والتوجيهات. بدأ الأمر بترتيب بيت حزب جبهة التحرير بعد اضطراب داخلي عمّـر طويلا بين شخصيات هرمت (أصغرهم فوق الستين من العمر) ومجموعات تقاتلت على الامتيازات والغنائم. ترتيب بيت هذا الحزب انتهى بتعيين عبد العزيز سعداني أمينا عاما له. والأخير محسوب على رجال الرئيس، كان في السابق رئيسا للبرلمان، وصل إلى ما وصل إليه بفضل بوتفليقة إذ لا تـُعرف له قدرات سياسية أو شهادات علمية أو دهاء سياسي (خصومه يقولون إنه كان عازف ‘مزود’ ـ مزمار ـ في الأعراس والحفلات الشعبية بالصحراء). رصيده الوحيد تبعيته العمياء لزمرة الرئيس.
إن تعيين سعداني في هذا المنصب يعني، باختصار، أن حزب جبهة التحرير سيقف مع رأي بوتفليقة ورغبته في تسوية موضوع الرئاسة.
ثم سيأتي دور التجمع الوطني الديمقراطي، وهو الآخر عبارة عن جهاز عقيم وُلد بالغاً، يجمع في صفوفه عتاة رجال الدولة والمتقاعدين منهم مع مزيج من الطمّاعين والانتهازيين والضالين سياسيا. يعاني هذا الحزب أزمة قيادة بدأت عندما فقدَ تزكية أهل الحل والربط في الحكم وغابت عن نظره البوصلة السياسية، فأُطيح بأمينه العام أحمد أويحيى بدون أدنى مقاومة وتـُرك يسير بقيادة مؤقتة تواجه عصيانا داخليا، مثلم الذي واجهته قيادة جبهة التحرير.
في الأسابيع القليلة المقبلة سيجري ترتيب بيت التجمع الديمقراطي بشكل يصب في خدمة بوتفليقة أو من يأمر (بوتفليقة) بتزكيته.
كما ستوضع اللمسات الأخيرة على الجمعيات والمنظمات كالاتحاد العام للعمال الجزائريين ومنظمات المجاهدين وأبنائهم وابناء الشهداء وغيرها، لتتولى مهمة تسويق بوتفليقة ـ أو من يرضى عنه وربما شقيقه ـ للجزائريين على أنه الأفضل لهم في السنوات المقبلة.
في وضع سياسي سوّي كانت هذه الأحزاب والتنظيمات والاتحادات هي التي تحول دون استمرار بوتفليقة رئيسا، لكن حالة النفاق والفساد السياسيين المستشريين في البلد لم تترك للحياء مكانا.
توفيق رباحي كاتب وصحفي من الجزائر/عن القدس العربي